أن تكون سيِّداً للكلام وجنرالاً للمواقف في الزمن الصعب
د. رائد المصري
لن نتكلَّم اليوم باللغة الشائعة المُتعارف عليها وكأنَّه اجترارٌ لمواقف وإشادات وتحليلات سابقة، قد خطتها الأقلام وحُبِّرت بها صفحات عدة، لما قاله أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، في خطابيه الأخيرين، وكذلك ما رافقه من تصريحات ومواقف لفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، حول دور لبنان وحفظ المقاومة والبدء في إعادة تسويق مشروع هذه المقاومة عربياً وإسلامياً، في لحن جديد وتوزيع أخفَّ على السامع الذي أطرشته البروباغاندا الغربية ورجعياتها العربية الطفيلية، وجعلته يُصمُّ أذنيه ويغطي نظره عن كلِّ ما يتعلَّق بتعزيز الكرامة العربية ورفعتها، ومواجهة المشاريع الاستعمارية الغربية والصهيونية والتي تشكِّل المقاومة وحفظها خطَّ سيرها الأساسي.
في خطابه الأول، خطَّ السيد نصرالله أُسُس بنيان الدولة الأول، وتحدَّث عن محدَّدات مهمة يجب التنبُّه لها: أولاً عبر تأكيد ضرورة صياغة مشروع قانون انتخابي قائم على النسبية لأجل إعادة تركيب خريطة سياسية نيابية عمادها الأساسي إلغاء الطائفية السياسية والاصطفافات المذهبية، التي أهلكت وأتْعبت طريق المقاومة والناس خلال سنوات مضت، وبالتالي بات لزاماً بحسب رأيه، أي «السيد»، السير بمرحلة جديدة مع المعطى الإقليمي الذي بدأ يتبلور بدءاً من الساحة السورية مروراً إلى لبنان وصولاً الى كلٍّ من اليمن وفلسطين المحتلة. وهو الأمر الذي تقف فيه هذه الطبقة السياسية الحالية المتهالكة، والتي أصابها التعفّن في الكثير من جوانبها عاجزة وفاقدة القدرة التمثيلية الشعبية المزيفة، وهو ما انعكس قصوراً في احتضان المقاومة ومشروعها في الصّمود حتى لدى أقرب المقرَّبين منها…
الموضوع الثاني الذي لا يقلُّ أهميّة عن الأول هو منع فرض ضرائب جديدة وزيادتها على الشعب اللبناني، بالتوازي مع مشروع إنجاز الموازنة العامة التي عجزت عن تحقيقها هذه الطبقة السياسية المذهبية منذ العام 2005، وبالتالي هذا يحسم خيارته لناحية إراحة الطبقات الفقيرة والتخفيف عن كاهلها لكونه استشعر الخطر الناتج من تزاوج الطبقة السياسية مع رجال الأعمال والمال، الذين كانوا ولا زالوا يشكِّلون جبهة أو كارتلات مخيفة تطْحن لقمة عيش الفقير، وتتهرَّب من دفوع الضرائب المتوجبة عليها، وتركِّب قوى سياسية طائفية ممتهنة في ترتيب الصفقات والسمسرات المالية ومافيات السطو والغدر. فهذه الطبقة المتشكِّلة من الفساد تدكّ أعْتى الأوطان وتهدُّها في سبيل تحقيق المزيد والمزيد من مصالحها المالية والاقتصادية، في نمط أو جهاز تراتُبي على الشاكلة الأميركية ومؤسساتها التقليدية والتي ما زالت تضع العراقيل وتسطو على الخصوصيات الحقوقية والضمانات التي كفلتها القوانين، في إعادة إنتاج الحروب في العالم بالواسطة، لتهديم الأوطان وتخريب مقدّراتها، في دورة إنتاج رأسمالية تُعيد تحصين حضورهم عبر الشركات المتعدّدة الجنسيّات، وكارتلات المجمع الصناعي الحربي والعسكري، والمال والبنوك والعقارات. وهذه أيضاً تُعَد سابقة أن يتحدَّث سيد المقاومة في مواجهة أي أعباء ضريبية يريد فيها هذا النظام المالي المعولم وأدواته المحلية من البنك الدولي.
لكن ما أراده السيد نصرالله وبجرأة حول ضرورة عودة النازحين السوريين، الذين فاقت أعدادهم نصف تعداد السكان اللبنانيين والتنسيق مع السلطات السورية، فهو بالإضافة إلى أنه موضوع حساس ووطني ويريح الشعب اللبناني الذي يعاني من أزمات النزوح وغيرها، لكنه يفتح الباب أمام مكافحة المزايدات بالحديث عمّا يسمونه الثورة السورية وتهجير شعب، وبإعادة النازحين ليسكنوا في كنف الدولة الشرعية المتعارف عليها دولياً وإقليمياً، إلاَّ من بعض المتحوِّلين والمشوَّهين سياسياً واتخاذهم مطيةً انتخابية في استثمار سياسي رخيص على أبواب مرحلة الانتخابات التي قَرُب موعدها، فبذلك يكون السيد نصرالله قد أرسى قواعد جديدة في مقاربة العمل السياسي والرؤية الاستراتيجية التي ما انفك يُعطِّلها البعض مرة بالاستبداد السوري المزعوم الذي عانوا منه وأكلوا من خيراته كلها ما شاءوا، ومرة من تهجير الشعب السوري، ونزوحه ورميه على قارعة الطريق واستخدامه سياسياً لمحاصرة الدولة السورية تسهيلاً للمشروع التكفيري والصهيوني، ومرة ثالثة بالحديث عن التمثيل الطائفي والمذهبي في القوانين الانتخابية التي يجري إقرارها من أجل صحة التمثيل الحقيقي، علماً أنّها ملفات واهية وتدجيل سياسي امتهنه هؤلاء القادة المتمذهبون حفاظاً على أزلامهم ومؤسساتهم التي نهبوا أموال الشعب اللبناني من خلالها وأثروا بشتى الطرق غير المشروعة، وحفاظاً وتكريساً لواقع طائفي مرير لم يَعُد مقبولاً السكوت عنه بالمطلق…
أقول قولي هذا لأصل وأتطرَّق لمواقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الأخيرة، والتي أدلى بها في تصريحات استباقية قبل جولته العربية، أولاً بإعادة تثبيت دور وحضور المقاومة على الساحة اللبنانية والفلسطينية في مواجهة العدوان الصهيوني، وثانياً حضورها عربياً وإسلامياً وترك المفاهيم البالية والعبارات المشكِّكة لهذا الدور، للتأسيس في بناء وحضور وتكريس حالة تُعيد لها زخمها العربي والإسلامي، خصوصاً من سورية في مقاتلة العدو التكفيري، وتوسيع شرعية هذه المقاومة ودورها عربياً، في محاولة لبناء سياج حديديّ وإسمنتي حولها يَقيها شرَّ الحروب والاستهدافات سواء من خلال العدو التقليدي والتاريخي إسرائيل، أو من خلال العدو المستجدّ في تحالف الدول السنية المجدِّد للدور التآمري، عماده تركيا وتقف خلفه السعودية وقطر و«إسرائيل».
هذا الدور المتكامل بين سيِّد المقاومة وفخامة الرئيس يظهر من خلال تحصين جبهة لبنان الداخلية في كلام تطميني وهادف وتثبيت قواعد الردع وتوازن الرعب مع الكيان الصهيوني حول ضرورة أن تعمل «إسرائيل» على تفكيك مفاعلاتها النووية، لأنها تشكِّل خطراً عليها، وهي إشارات لها مدلولاتها في الكيان «الإسرائيلي» العميق، وقطعاً للطريق على أيِّ مغامرة قد يلعب بها نتنياهو في ظرف تاريخي وتقاطعات دولية وإقليمية جنونية قد يلجأ إليها دونالد ترامب وهو في حالته هذه.
كذلك خطة الطريق التي أرادها فخامة الرئيس بضرورة إعادة مقعد الجامعة العربية لسورية تثبيتاً لشرعيتها وشرعية حكمها سواء عبر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي أو المنظمات الأوروبية، وبالتالي نقل لبنان في مقاومته التي تجاوزت حدود الردع، للاستثمار والبناء على هذه القدرة في أن يكون لهذا البلد الصغير دور في إعادة لملمة الشتات العربي وترتيب القرارات والمواقف بين دوله، التي تبدأ أولاً وأخيراً في الموقف من سورية وإعادة حضورها الإقليمي، كذلك من أجل مواجهة التحديات الجديدة والتحالفات العسكرية والسياسية التي بدأت تتشكل في المنطقة والعالم، حتى لا يكون لبنان بمنأى عن كلِّ ما يجري وتحصيناً لمواقفه ولمقاومته ولحضوره ودوره الفاعل في الساحة العربية والإقليمية.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية