الخيبة السعودية: لبنان تغيّر والمقاومة من ثوابته الكبرى
العميد د. أمين محمد حطيط
تتصرّف السعودية في لبنان بذهنية ما قبل العام 2008، وتتجاهل المتغيّرات الدولية التي حدثت في المنطقة والتي أدّت الى ضمور كبير في الفضاء الاستراتيجي السعودي. فالسعودية كانت في لحظة معينة تملك القرار اللبناني، حيث وصل الأمر بها لأن تكون الطرف شبه الوحيد الذي يقرّر للبنان الذي كان مسؤولوه لا يقطعون صغيرة أو كبيرة إلا بعد الرجوع الى «مملكة الخير» التي كان مَن يحمل جنسيتها يقوم بوظيفة رئيس لحكومة لبنان والممثل الحصري الوحيد للطائفة السنية التي همّشت كلّ زعاماتها لإقامة تلك الحصرية.
لكن العصر الذهبي للسعودية انتهى وأصبحت السعودية اليوم «مملكة الفشل» التي تحترف الإخفاق المتعدّد الوجوه في كلّ ميدان تدخله. بدءاً من العراق وسورية مروراً بلبنان ووصولاً إلى اليمن والبحرين. ومن الواضح أنّ المليارات الوفيرة التي صرفتها السعودية لشراء الأسلحة او لرشوة هذه الدولة أو تلك لم تعوّض لها خيبتها، فضاعت الأموال واستمرّ الفشل.
في هذه البيئة تريد السعودية أن تستعيد دورها الضائع في لبنان والمنطقة. دور ضاع بسبب سوء سياستها وإدارتها وجهلها بقدرات الشعوب وحقوقها حتى وعدم احترامها هذه الشعوب وحقوقها.
لقد حاولت السعودية طيلة سبع سنين من ممارسة الإرهاب التكفيري إخضاع سورية وعبرها محور المقاومة، وفي النهاية تبيّن لها أنّ الإرهاب الذي صنعته يداً بيد مع أميركا عاجز عن تحقيق المطلوب، فتظاهرت كما تظاهرت أميركا بمحاربة الإرهاب والتنصّل منه والادّعاء بأنّ غيرها، وتقصد محور المقاومة، هو مَن يمارس الإرهاب.
ثم جرّبت السعودية الحرب المباشرة وشنّت حرباً على اليمن تحت عنوان ملفّق هو تثبيت الشرعية، ثم تدحرج الهدف وتبدّل إلى أن انتهى إلى القول بأنّ غاية الحرب منع ظهور حالة حزب الله في اليمن في موقف يثير السخرية، خاصة أنّ مَن أعلن عن هذا الهدف يعرف أو عليه أن يعرف بأنّ الثورة اليمنية التي يقودها أنصار الله الحوثيون باتت حقيقة قائمة وجزءاً لا يتجزأ من النسيج اليمني، ولن يكون بمقدور أحد أن يقتلعها، وبالتالي القول باستمرار الحرب حتى تحقيق هدف اقتلاعها، إنّما هو عمل عبثي يشبه ما قاله قبلاً تيلرسون عن الحشد الشعبي عندما طالب يإخراجه من العراق في دلالة على جهل وعمى فاضحين.
أما في لبنان فإنّ اتفاق الطائف الذي شاءته السعودية أداة لتركيز الحكم بيد رئيس الحكومة السعودي الجنسية الذي يتبع لها، أنّ هذا الطائف يجري تعديل واقعي عليه من شأنه أن يعيد التوازن إلى مؤسسات الدولة ومراكز السلطة فيها ويسقط حالة التفرّد المقيت التي بلغت ذروتها ما بين العام 2005 و2008، ويتّجه إلى إقامة الحكم الوطني المتوازن الذي لا يكون فيه للسعودية ولا لسواها موقع القيادة.
ففي لبنان اليوم رئيس جمهورية قوي، قوي بذاته واستقلالية قراره، قويّ بتمثيله الشعبي وتأييد اللبنانيين له، وقوي بمعرفته بموازين القوي الإقليمية والدولية ومعرفة التناغم معها ويملك تمام القدرة على قيادة سفينة في بحر متلاطم الأمواج إقليمياً ودولياً، وقد أكد قوته المتعدّدة الأشكال تلك في اللقاء المفتوح مع الصحافة بمناسبة مرور سنة على تولّيه الرئاسة. ولم يغيّر في مواقفه وقناعاته عتبٌ أو غضبٌ أو حردٌ سعوديّ، مهما كان حجمه.
وفي لبنان مقاومة تملك من القوة ما جعل «إسرائيل» تذعن لمعادلة الردع الاستراتيجي في مواجهتها، وتحسب ألف حساب لمواجهتها، حتى وباتت تراقب مواقف وتصريحات سياسييها التي يخشى أن تدفع الأمور إلى مواجهة مع حزب الله، كما حصل مؤخراً مع وزير الحرب «الإسرائيلي» ليبرمان.
ولبنان أيضاً وأيضاً مارس وبجدارة مواجهة الإرهاب الذي رعته السعودية واستثمرت به بدءاً من جولات الدم الطرابلسية الـ 22 وصولاً إلى احتلال الجرود التي طهّرها الجيش والمقاومة وانتزع من يد السعودية ورقة التهويل على لبنان وأمنه واستقراره والتهديد بالإرهاب.
وفي الخلاصة، إنّ لبنان اليوم هو لبنان القوي بالرئيس القوي والمقاومة القوية والجيش الواعي القوي الذي لم تستطع السعودية شراء مواقفه وعقيدته القتالية بملياراتها الـ 3+1، والتي تراجعت عن تقديمها بعد أن فشلت في صفقتها وتعذّر إعطاءها مقابل المال ما طلبت ولم تجدِها نفعاً صرخة رئيس سابق في بعبدا خرق القواعد وقال من قصر الرئاسة اللبنانية «عاشت المملكة…».
كان على السعودية في تعاطيها الحاضر مع لبنان أن تعلم هذا كله وتأخذه بعين الاعتبار، ثم كان عليها أن تأخذ العبرة من مواقف مَن استدعتهم إليها من المسؤولين اللبنانيين والذين اعتذروا عن تنفيذ مهمة الإخلال بالأمن وإفساد الاستقرار السياسي، لأنهم كانوا أكثر وعياً وأكثر موضوعية ممن استدعاهم إليه وأفهموه بأن لا قوّة لهم لتنفيذ ما يُطلب منهم، ولم يغيّر الحال أن وصفتهم السعودية بالجبناء، فالوصف لم يثنهم عن الرفض ولم يحملهم على تغيير المواقف ولم يدفعهم الى الانتحار المادي أو السياسي.
وبعد كلّ هذا يجب أن نسأل علامَ تراهن السعودية في تهديدها للبنان وتهديد المقاومة؟ وبأيّ حق أو قوّه تطلب السعودية من لبنان تلك الطلبات التعجيزية المستحيلة وهي تعلم أنّ أحداً في لبنان أو خارجه لن يستطيع تلبيتها او الاستجابة إليها حتى بالحدّ الأدنى؟
على السعودية أن تعلم أنّ المقاومة في لبنان والمنطقة بما فيها اليمن باتت حقيقة ثابتة لن تقوى كلّ مليارات النفط او سلاح المشروع الصهيوأميركي على المسّ به، وحسناً لو تطلعت السعودية إلى مؤتمر علماء المقاومة المنعقد في بيروت ونظرت إلى مَنْ احتشد فيه لكانت علمت الشيء الكثير إذا شاءت أن تعلم وتتعلم.
وأخيراً نعود ونؤكد أنه وضمن ما لدينا أو تسرّب إلينا من مواقف اللبنانيين خصوم المقاومة وأعدائها، نؤكد انّ من استدعتهم السعودية إليها لتملي عليهم المهام والمواقف والوظائف، كانوا رحماء بأنفسهم ولم تغرهم الأموال ولم يخضعوا لضغوط السعودية من أجل تفجير الوضع السياسي والأمني اللبناني الداخلي، وقد فعلوا حسناً أولاً خدمة لأنفسهم ولا لزوم للتذكير أو الإشارة إلى ما يمكن أن يحلّ بهم لو اخطأوا التقدير ثم خدمة للبنان وأهله، وأخيراً خدمة للسعودية ذاتها حتى لا يُضاف للساحات والمستقطعات التي تتمرّغ فيها ساحة جديدة على أرض لبنان. أما المراهنة على «إسرائيل» فننصح السعودية التي هي على اتصال يومي بها أن تتحرّى لديها نيّتها للذهاب الى الحرب ضدّ المقاومة وستجد السعودية إجابة تزيد من خيباتها…
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي