ضبط تغيّرات الحداثة وخطر الـ «هويات» الفرعية
نظام مارديني
كشفت أزمة المشهد السياسي في دول الهلال السوري الخصيب عن أزمة إدارة المجتمع من قبل مؤسسات الدولة، التي كانت تضع العديد من العُقد أمام أي حوار حقيقي، حتى بدا أن غموض مصطلح «ثقافة الاختلاف» بين نسيج الكيانات السورية بلعب دور معقّد في إنجاز أي توافق بين الجماعات، أو حتى في تشجيعها وتحفيزها على أن يكون لها حضور واقعي في الحراك الدولتي والمجتمعي.
وفي أي توافق بين الجماعات في المدن الكبرى، يجب النظر إلى الرؤية الحداثوية المرتبطة بنتائج فكرة المجتمع المدني، لكون المدن تشكّل بيئة لإنتاج وحدة المجتمع وتعبّر عنه، مثلما هي الإطار الضامن لإنتاج وتداول الثقافات. والتي تُعبّر عن هويتها، وعن طبيعة التحوّلات التي يمكن أن تحدث فيها، والتي تظل رهينة بمنظومة ما تنتجه من قيم وعلائق وصراعات تكفل وجودها وتطورها، وتُيسّر مديات حراكها الثقافي والسياسي والتجاري والاجتماعي، إذ يمثل هذا المُعطى طابعاً لازماً لتوصيف المدن، ولضبط تغيّرات الحداثة فيها، والتي تعبّر عن «هويات» فرعية، بحكم ما فيها من جماعات، ومدارس، وأحزاب، ومؤسسات دينية وتعليمية وحقوقية.
وهو ما يرسم صورة بانورامية للمجتمع المدني، فيها الكثير من المُتخيّل السردي، مثلما فيها الكثير من الواقعية.
ولعل مدن الموصل وحلب وبيروت، من أهمّ المدن الحضرية الصالحة للدراسة الثقافية، بوصفها مدن جماعات، ومدن جدل، وصراع فكري، ومدارس تعليمية وفكرية وفقهية، كل هذا جعل العديد من المؤرخين يضعونهم في سياق امتياز هوية منفتحة، لطبيعة تنوّع الحياة فيها، ورمزيتها الراكزة في العقل الثقافي والسياسي والديني بوصفها «مدن التاريخ» غير القابلة للمحو، فنأت بنفسها، ولعقود طويلة عن الصراعات الداخلية القبلية والعشائرية، رغم أن هذه المدن تعرّضت – في العصر الحديث – لأشكال معقدة من التخريب الممنهج، ما حوّلها بيئات غير مُحصَّنة، بسبب فشل الدولة/ السلطة في معالجة مشاكل أريافها، وفي تنظيم المعيش فيها والحاجات في الأماكن المجاورة للمدن الأخرى.
وجاءت أحداث ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، وقبلها الحرب الأهلية في لبنان، وبعدهما الحرب في سورية وعليها، لتشكّل إيذاناً ببدء مرحلة انتهاك قيمي وأخلاقي وديني لهذه المدن إذ تعرّضت الجماعات فيها لحملة تهجير جماعي، وطرد ثقافي تمّ استيلاده بجلب قوى خارجية كانت مهمتها للإيحاء بأن ما جرى ويجري قائم على الكراهية والنبذ. وهو ما يُعدّ أول خروج قانوني وأخلاقي عن وحدة الحياة، وحق الملكية والمواطنة.
إن البحث عن طبيعة تفاعل الجماعات السورية عبر التاريخ يتطلّب وجود خريطة عمل، على مستوى إدارة ملفاتها المعقدة، المحكومة بتخندقات جماعاتية، وبهشاشة الانتماء إلى وحدة الحياة، أُضعفت فيها القدرة على الانتماء. وفي هذا هناك دور سلبي كبير للسلطات القائمة على نسق معين من النظام السياسي ألغى فيه فكرة «ثقافة الاختلاف» مع الجماعات، القائمة في المجتمعات الحضرية في العالم.
إن كل تصدّع تُصاب به الدولة عبر صراعاتها المتكرّرة، سيُسهم في تفكيك المدن، وفي إحداث الكثير من الثغرات في نظامها المديني الحضري القائم في الأساس على التنوّع، بعدما كان هذا التنوع غارقاً في بيئات ذات علاقات تقوم على سلطة العشيرة المحكومة بعلاقات شبه إقطاعية، طائفية أو إثنية.
هذه الصورة جعلت الريف العراقي يتموضع بعيداً عن الفاعلية العمرانية للمدينة السياسية، وبقطع النظر عن المدن مثل الموصل حلب – وبيروت، فإن واقع هذه المدن كان خاضعاً لسلطة جماعة ما دينية أو إثنية ـ عرقية ، رغم وجود مؤسسات الدولة وقوانينها، وحتى الحراك الثقافي المحدود في عديد المدن ظل جزءاً من حراك بعض الجماعات وشعاراتها، والتي أعطت لنفسها دوراً خطيراً في فرض قيود على أي حراك مدني ثقافي تنويري حقيقي فاعل من داخلها.
لا شك في أن طبيعة الحراك الثقافي «الجماعاتي» ستبقى مسكونة بهاجس التغيير، وشعارات الحرية والديمقراطية حتى تتحول الدولة دولة المواطنة التي تحفظ حقوق الجماعات باعتبارها حقوق المجتمع القائم، بعدما تحوّلت الدولة في بعض مؤسساتها مؤسسات قمع. وبحيث وجد هذا المثقف إبن الطائفة أو العرق نفسه أمام رعب المكان، ورعب الرقابة ورعب السجن، ما أفقد المدن مزاجها الوحدوي، وأبقاها قائمة في سياقها الثقافي/ الإعلامي على التبعية والإخضاع.
إن الإجراءات والسياسات التي تتّبعها الجماعات مع غياب وضعف مؤسسات الدولة في الهلال السوري الخصيب ستمهد الطريق إلى تغييرات ديموغرافية واجتماعية وثقافية خطيرة، وستسحق معها قيم المدينة الحضرية، وقيم المدينة الثقافية، ما سيفرض شروطه على هوية المدن، وعلى الجماعات والأفراد.
في الختام، ألم يكن التطوّر الاجتماعي للحضارة برمّته، توثيقاً مستمراً للمواجهة المتواصلة والمعقدة بين «رهان» السلطة المستميت على البقاء، وخيار الجماعات الثابت بديمومة الارتقاء الوعر نحو وعي سياسي أعلى؟! ولذلك ليس جديداً أن تراهن السلطات السياسية الحالية في دول الهلال السوري الخصيب على الزمن الفيزيائي لبقائها، فيما يتطوّر الحدث السياسي بعيداً عنها خطوة خطوة ليبتني جذوره الانعزالية المستقبلية في التاريخ الاجتماعي.
الحديث عن بناء الدولة القومية يعني الحديث عن بناء مؤسسات المواطنة، وفق أسس حقوقية، وبما يجعل تأمين وحدة مجتمع المدن أمراً لازماً في سياق بناء هذه الدولة أو الدول في الهلال السوري الخصيب ، والوقوف بمسؤولية أمام رهان القومية السورية بوصفه القوة الحقيقية التي يمكن من خلالها مواجهة تحديات بناء الدولة.
هذا الرهان الأخير لا يعني تجاوزاً لوجود الجماعات الإثنية والطائفية في المشهد السياسي، بل هو الأكثر حرصاً على حمايتها، والتقليل من آثار انعزالها، وإعطاء بنية الدولة القومية تحفيزاً لوجودها، ولهويتها السياسية والمهنية، وإقصاءً للتوصيف الطائفي ـ العرقي الذي سيظل مصدراً مرعباً لإنتاج الأزمات في الدول القائمة.