لنجعل فلسطين أغنية أطفالنا اليومية
اياد موصللي
طالعتنا الأخبار الواردة من فلسطين انّ التظاهرات عمّت المدن وانّ تظاهرة فلسطينية مع بعض المشاركات الأجنبية سارت في شوارع «تل أبيب» تندّد بقرار «قومية الدولة الصهيونية»، وهو الإطار القانوني الأخير الذي يعطي الهوية للدولة المزعومة… المغتصِبة… المعتدِية… يحدّد صفتها وعنوانها.
وكما قال رئيس وزراء هذه الدولة نتنياهو: «هذه لحظة فارقة بتاريخ الصهيونية ودولة اسرائيل بعد 122 عاماً من قيام هرتسل بنشر رؤيته، حدّدها بالقانون مبدأ أساس وجودنا، إسرائيل هي دولة قومية للشعب اليهودي»، أضاف: «عندما نتحدث في العالم انّ هذه دولتنا دولة اليهود، في السنوات الأخيرة هنالك من يشكك بذلك، وزعزعة أركان وجودنا، لذلك قمنا بسنّ هذا القانون الذي يضمّ النشيد الوطني الخاص بنا لغتنا وعلمنا… عاشت إسرائيل…»
انّ ما يجري على الأرض اليوم شبيه بما جرى قبل إنشاء دولة «إسرائيل» بأدوار معكوسة، كان اليهود يفتشون عن أرض ودولة، وها نحن اليوم نفتش عن أرض ودولة لفلسطين، من نّصبوا أنفسهم قادة لشعب فلسطين، كلّ القادة دون استثناء يلهثون من أجل مفاوضات مع العدو المغتصب، للتوصل الى اتفاق يسمح بموجبه للسلطة الفلسطينية ان تقيم دولة… وأية دولة هذه التي لا حدود طبيعية لها ولا مقوّمات، الأصحّ ان يقولوا حكومة فلسطينية على أرض تمنح لها وهي أشبه بما كان يناله الهنود الحمر بعد ان سلب المهاجرون أرضهم واستعمروا أميركا، تماماً بنفس السيناريو «محمية لا دولة». كان اليهودي يوصف باليهودي التائه، وأصبح الوصف اليوم: «العربي التائه».
يقول هنري سيغمان، وهو شخصية أميركية يهودية، كان مدير مشروع الولايات المتحدة للشرق الأوسط في نيويورك ومدير تنفيذي سابق في الكونغرس الأميركي اليهودي، في مقال له نشرته مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» بتاريخ 16/8/2006، «في الواقع، كلّ مبادرات السلام السابقة لم تصل إلى أية نتيجة لسبب ليس لدى بوش ولا لدى الاتحاد الأوروبي الشجاعة السياسية للاعتراف به، هذا السبب هو الإجماع المتفق عليه منذ زمن بعيد من قبل النخب صاحبة القرار في إسرائيل بأنّ إسرائيل لن تسمح أبداً بقيام دولة فلسطينية تحول دون سيطرتها الفعلية، العسكرية والاقتصادية على الضقة الغربية». ويضيف: «انّ هذا الموقف الإجماعي لا يمنع قبول إسرائيل بوجود عدد من الكيانات المعزولة عن بعضها البعض التي يمكن ان يصبح الفلسطينيون فيها اكثرية».
وبرغم عدم مضي مدة طويلة على ما كتبه سيغمان فانّ ما حدث بعدها يؤكد هذا التوجه، فقطاع غزة أريدَ له ان يكون بعد الانسحاب «الإسرائيلي» منه عام 2005 مصدر شق للصف الفلسطيني… وكذلك السياج الذي أقامته «إسرائيل» ليفصل مناطق الضفة الغربية عن بعضها وكذلك الموقف المتشدّد لـ «إسرائيل» والولايات المتحدة تجاه اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين. انّ ما نالته السلطة الفلسطينية في تشرين الأول 2012 بصفة دولة مراقبة في الأمم المتحدة لا يجعل منها دولة تلبّي طموح الشعب الفلسطيني ولا تعوض عن دماء الشهداء ولا تلغي روح وفعل العمل لاستعادة فلسطين من البحر إلى النهر.
لنقلها بكلّ شجاعة… اختار اليهود ما يريدونه واستجابت لهم المصالح العالمية فأسّسوا دولة وفرضوا وجودهم، كانوا سائلين متوسّلين فأصبحوا مسؤولين مانحين حارمين واهبين رغم تفاهتهم وحقارتهم وخسّتهم وغدرهم.
أما الفلسطينيون فأصبحوا «شعب الله المحتار»… يهيمون ليس بحثاً عن ارض بل بحثاً عن هوية وحقيقة ووجود لأنهم ونحن معهم في الصيف ضيّعنا اللّبن…. أننا لا نبكي على اللّبن المراق، نحن نبكي على الأرض والدم المسفوح. نبكي على الزحف لتقديم الولاءات للأنظمة والمشيخات والإمارات بدلاً من الزحف من أجل الفداء.
سبعون عاماً على النكبة وعلى أجيال الشتات التي ولدت ونمت في المخيمات والمعاناة، ماذا أعددنا لها وماذا هيّأنا لعودتها؟ هتافات تذكرنا بهتافاتنا قبل النكبة «فلسطين عربية وستبقى عربية». وها هي اليوم فلسطين يهودية. فلسطين يهودية تشريعاً وقانوناً حدّدت ديانتها… وعنصرية سكانها اليهود فقط ولغة الدولة العبرية.
وكانت ردة الفعل العربية كالمعتاد كلاماً بكلام. تظاهرات واحتجاجات، خطب وتصريحات.
ادان الأزهر بشدة إقدام الكيان الصهيوني على إقرار ما يسمّى بـ»قانون الدولة القومية اليهودية»، وذلك في خطوة تنمّ عن عنصرية بغيضة، تبرهن على حقيقة ذلك الاحتلال الاستيطاني.
كنا نهتف «يا بالوطن يا بالكفن…» نلنا الكفن ولم ننل الوطن.
لقد عالجنا أوضاعنا بالاتكال على الزمن لحلّ أزماتنا ولم نخطط يوماً أبعد من أنوفنا في حين كان العدو يخطط لما حصل عليه اليوم منذ عشرات السنين، فاليهود الذين كانت أوروبا تقتلهم بمئات الآلاف كانوا يتحيّنون كلّ فرصة تسنح لهم لمهاجمة أرض اللبن والعسل كما يسمّون فلسطين، ويدمّرون الحواضر مثل أريحا والخليل وغيرها لأنها متحضّرة وهم وحوش بعيدون عن التحضر والإنسانية ملتزمون بما جاء في سفر التثنيه -7- لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم . لقد حاربتهم الشعوب كما حاربتهم الحكومات في أوروبا حتى انّ نابليون بونابارت أجبر المجلس اليهودي الأعلى الفرنسي على الإعلان عام 1807 انّ يهود فرنسا لن يعودوا يشكلون أمة وانهم مجرد مواطنين فرنسيين وأنهم تخلوا عن مشروع الهجرة الجماعيه الي فلسطين .
اذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ ان يستجيب القدر.
ربينا على المثل والأشعار والقيم التي تمجّد تاريخنا وأصالة أمتنا، وصحونا على واقع بعيد في الكثير من مفاصله عن كلّ ما قرأنا وسمعنا. حتى كاد اليأس يقبع في نفوسنا ويطفئ شعلة الطموح فيها، كنا نقارن بين حقيقة نلمسها وأمجاد نقرأ عنها ونسمعها، صفحات مجيدة وصفحات مزرية، أين حقيقتنا اين نحن… نحن قوم لا نلين للبغاة الطامعين… أرضنا فيها معين للاباة الميامين…. لنا الصدر دون العالمين او القبر… ـ واقع ام نخوة شعرية فقط؟
حدثت كارثة فلسطين وويلات النكبة والتخاذل المشين في مجابهتها… فَقَدنَا الصدر والصبر، ولم نجد القبر، فقد نبشت قبورنا، حلّ اليأس مكان البأس وطأطأ الرأس للفأس…
ثلاثة أجيال نشأت بعد النكبة، ماذا فعلنا لها، ماذا قدّمنا لها. مخيمات ومعاناة، شوادر وسلال للتسوّل، في مثل هذه المناسبة التي مرّ بها اليهود حيث كانوا مشرّدين وجاليات، قامت تنظيماتهم وقياداتهم فوضعت المخططات والمؤسسات والهيئات لجمعهم وتنظيمهم وتربيتهم على أهداف محدّدة وهي «أرض إسرائيل» حلم يجب تحقيقه فكانت الوكالات وكانت الجمعيات والمصارف والمدارس… وتأطر كلّ ذلك بميليشيات سرية ترعى هذا النشاط وتحميه حققته بعد ذلك بدولة «إسرائيلية» يهودية… محرّم على الفلسطيني الانتماء اليها.
أما قياداتنا فأين هي لا ترعى أجيالنا، وأحلامنا، أين مؤسّساتنا أين المدارس والمصارف، أين الدروس أين الجمعيات التي تحمي الأسر؟ أين أموال التسلح بالمليارات تدفعها حكوماتنا لدول الغرب من أجل تغذية حروب داخلية، أو خزنها في مستودعات نشتري القديم وندفع ثمن التجديد. هذه الأموال لماذا لا يصرف جزء منها على إنعاش شعبنا وتهيئة أجيالنا لمواكبة الحياة بتطلعات مستقبلية. أين الإعلام وهو أعلى سلاح وكما سمّاه الصهاينة «الآلة الجهنمية» نسخّره لخدمة القضية عالمياً بدل أن يقوم العدو بتسخير الإعلام العالمي كله والغربي جزءاً منه للسيطرة على عقول البشر وتضليلها.
المصيبة أنّ بعض العرب حين ينضمّون إلى الجوقة المدافعة عن «إسرائيل» فإنهم يصبحون رقماً مضافاً إلى حشدٍ من الدول ذات المصالح في المنطقة والقوى المتحالفة معها وفي السنوات الأخيرة سمعنا الكثير عن المتصهينين الذين أوغلوا في مظاهر الانحياز لـ «إسرائيل».
ان ارادتنا تحتم ان نحدّد قدرنا وقدرنا ان ننتصر.
لذلك على شعبنا بمنظماته المتعدّدة والمتنوّعة في ايدولوجياتها وولاءاتها القطرية وتنافر قيادتها، ان تقتنع بوحدة قرارها. إن استرجاع فلسطين مصلحة فوق كلّ مصلحة، فتعمل لتحقيق هذا الهدف بتوحيد البندقية والراية… فعودة فلسطين هي الدين والدنيا، فلا حماس ولا جهاد إسلامي، ولا فتح ولا جبهة شعبية بتنوّعها، ولا ديمقراطية ونضال، ولا صاعقة، ولا ولا… بل يد وإرادة فلسطينية واحدة تضع حداً للشرذمة وتضع حداً للهرولة والزحف وراء أولئك الذين جلبوا الويل والكارثة، وتقبر التخاذل والمتخاذلين، تنظف بيتنا الداخلي وتفتح القبور للخونة والمتعاملين مع العدو أو مع الانظمة المتواطئة معه. ويصبح نشيدنا واحداً، «كلنا للوطن… يا بالوطن يا بالكفن»، نجعل فلسطين أغنية أطفالنا اليومية ـ نستبدل كل اسم باسم فلسطين كولا والشوكولا فلسطين، إذ ننام او ننهض كلّ فرد فينا بدلاً من التحية اليومية نرفع اليد عالياً ونصيح تحيا فلسطين ونعلن توحّد هدفنا وقرارنا وإرادتنا… ونوقف الزحف المشين وراء «المحميات» ونعلنها وقفة عز وعندها وعندها فقط سنحقق أروع انتصار لأروع شعب وليرى بعدها العالم مواكب العزّ تسير تحت رايات النصر معلنين انّ زمن الهزائم قد ولّى…
«نكبنا وليس عاراً ان ننكب ولكن العار كلّ العار ان تحوّلنا النكبات من أمة قوية الى أمة ضعيفة…»
ونختم بأغنية العار لجبران خليل جبران التي أصبحت طربوش العربان وعباءتهم:
«ويل لأمة تنصرف عن الدين الى المذهب، وعن الحقل الى الزقاق، وعن الحكمة الى المنطق.
ويل لأمة تكره الضيم في منامها وتخنع إليه في يقظتها. ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا سارت وراء النعش ولا تفاخر الا اذا وقفت في المقبرة ولا تتمرّد إلا وعنقها بين السيف والنطع.
ويل لأمة سياستها ثعلبة وفلسفتها شعوذة اما صناعتها ففي الترقيع.
ويل لأمة تقابل كلّ فاتح بالتطبيل والتزمير ثم تشيّعه بالفحيح والصفير لتقابل فاتحاً آخر بالتزميز والتطبيل.
ويل لأمة عاقلها أبكم وقويّها أعمى ومحتالها ثرثار.
ويل لأمة كلّ قبيلة فيها امة».
نريد ان نوقظ تاريخنا وهويتنا بأننا أمة ابت ان يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة…