لماذا الكرد… وهل هي ذاكرة السمك؟
محمد ح. الحاج
بالأمس أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ العملية العسكرية شرق الفرات قد تبدأ في أية لحظة…! هل جرى تفويض الحكومة التركية من قبل المجتمع الدولي أو الدولة صاحبة العلاقة بتحرير تلك المنطقة من سكانها؟
الأقلية الكردية التي تسيطر بقوة السلاح والدعم الأميركي على غالبية السكان استشعرت الخطر وأخذته على محمل الجدّ، ارتبكت قيادتها فتوجهت بالنداء إلى «الحليف» المشغل الأميركي طالبة النجدة، فاكتفى بالتعبير عن القلق من الحشود التركية ومن حصول عملية عسكرية، لكنه على الأرجح موافق ضمناً وينسّق مع الحكومة التركية من تحت الطاولة، ما يهمّ الأميركي استمرار الفوضى في المنطقة واستمرار مبرّرات وجوده، والأسباب ليست خافية على أحد.
يدرك البعض من القيادات الكردية أنّ الملجأ الحقيقي والمدافع الوحيد عنهم هي الدولة السورية، وربما لهذا السبب توجه البعض بنداء إلى الحكومة السورية لاتخاذ موقف، وهذا البعض بالذات وقف في وجه ذلك في السابق معلناً الخروج على ارتباطه وانتمائه الفعلي، وهو من أدار الظهر لبيئته ومجتمعه ووضع بندقيته في خدمة الأميركي ناسياً المواقف والتجارب السابقة التي تعرّض لها عبر أحداث التاريخ، البعيدة منها والقريبة على حدّ سواء.
في أربعينات القرن الماضي دفعت أميركا بالقيادات الكردية إلى إعلان الحرب على الدولة التركية بعد وعود بإقامة دولة مستقلة لهم، وهو الحلم الذي يعيشون عليه منذ زمن بعيد، من جهة أخرى قامت الحكومة الأميركية بدعم الدولة التركية وإمدادها بالسلاح والذخائر وقد خسر الطرفان الكردي والتركي، وفي ذات الوقت توثقت روابط كلّ منهما مع الجانب الأميركي لشعوره بالحاجة له حاضراً ومستقبلاً، وحدها الإدارة الأميركية كانت المستفيد.
بعد عقد ونيّف من ذلك قام الجانب الروسي بدفع الكرد في الشمال الغربي من إيران إلى الثورة والسيطرة على قطاع واسع من تلك المنطقة مع وجود الجيش الروسي وحمايته، تمّ على اثره إعلان جمهورية مهاباد التي لم تدم طويلاً حيث دعمت أميركا حكم الشاه فأسقط الجمهورية المحدثة وطارد زعماءها وكان بينهم الملا مصطفى البرزاني الذي لجأ إلى شمال العراق حيث تتواجد عشيرته ونجا من الإعدام.
في العام 1966 أرسل الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز رسالة إلى الرئيس الأميركي جونسون يطالبه فيها بدفع الكيان الصهيوني إلى شنّ حرب على مصر وسورية واحتلال أجزاء من أراضيهما، واحتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية للقضاء على أحلام منظمة التحرير الفلسطينية، ما يلفت الانتباه تضمين الرسالة طلب دعم ثورة مصطفى البرزاني في الشمال العراقي لصرف أنظار الحكومة العراقية فلا تلتفت جنوباً نحو السعودية التي كما قال لا تستطيع التعايش مع الأفكار «القومجية» واعترف بأنه ومن سنوات يقوم بإمداد ثورة البرزاني بالمساعدات والأسلحة عن طريق شاه إيران هنا يمكن معرفة نوع العلاقات الوثيقة بين الرجعية العربية والدولة الفارسية الشيعية الرافضية كما ينعتونها حالياً . ونعلم تماماً نتائج ومفاعيل رسالته وانعكاسها على الواقع في المنطقة، كما نعلم متأخرين بعد نشر الخارجية الأميركية للرسالة عن تعهّدات المملكة وتمويلها الحرب وتعويضها للجانب الصهيوني عن خسائره، ونتذكر قول فيصل: واسمحوا لنا يا فخامة الرئيس أن نمدّ يد المساعدة فنعوّض الدولتين المهزومتين عن بعض خسائرهما تفادياً لأبواقهم الإعلامية وأصواتهم المنكرة.
لم يكن مستغرباً انخراط الكرد في عمليات الفوضى التي استهدفت دول المنطقة الأربعة إيران والعراق، تركيا وسورية، وتوظيف قواهم ضدّ هذه الدول استجابة لحلم إقامة دولة لهم تمتدّ عبر أراضي الدول الأربعة، وهي لم تقم عبر التاريخ، ولست هنا في معرض التوثيق بقدر ما أهدف إلى الإضاءة على الخطيئة الكردية في الاستجابة دون تفكير إلى المشاركة في أية عمليات لم ولن تخدم قضية هي بعيدة عن الواقع، بل ربما هي أقرب إلى الحلم لحاجتها إلى توافق الدول الأربع وموافقتها عليه وليس قراراً دولياً لا يمكن لدول العالم مجتمعة أن تفرضه بالقوة.
في الأزمة السورية منذ العام 2011 تركزت جهود دول العدوان على تحريك ما يعتبرونه عناصر ثلاثة في التكوين الاجتماعي السوري، الأكبر هو المكوّن الكردي، الثاني هو العرقية التركمانية وعلى نفس القاعدة رغم أنّ المجتمع السوري لم يكن لينتبه لها أو معرفتها أو تمييزها عن باقي الشعب، أما المكون الثالث فقد كان تنظيم الاخوان المسلمين وهو الشريحة الأكثر عداء للمجتمع التعدّدي السوري، وللأحزاب الوطنية العلمانية، وارتباط هذا التنظيم بالأيديولوجية الدينية الشكلية التي قام عليها رغم أنه يرتبط فعلاً بالمحفل الماسوني البريطاني وما زال، ويتلقى قادة التنظيم تعليماتهم وأوامرهم منه.
ما يعنينا في هذا البحث هو نجاح الجانب الأميركي في تشغيل شريحة من الكرد واتخاذهم ذريعة كحلفاء للدخول إلى مناطقهم وتسليحهم ومحاربتهم للدولة السورية تحت يافطة محاربة تنظيم داعش وهو أداة أميركية بحتة، وإذ يرتبط الأكراد بالبنتاغون الأميركي والجيش، فإنّ علاقة التنظيم الداعشي سرية وهو يرتبط بالاستخبارات المركزية الأميركية، على الأرجح بالمستويات العليا التي تنسّق مع الموساد ولأنّ حقيقة الحرب كلها تخدم المصالح الصهيونية وهو الأمر الذي لا تكتمه أميركا ولا الإدارات المتعاقبة فيها، وكان على الكرد الانتباه وتحليل الموقف الأميركي من عملية دخول التركي إلى عفرين وغيرها من المواقع ذات الأغلبية الكردية بغية السيطرة عليها واحتلالها بعد أن قدّمت الفصائل الكردية المبرّر والذريعة المناسبة إعلان إدارة ذاتية وطرد مؤسسات الدولة السورية – ثم مطالبة الدولة بحمايتهم بعد أن سقطوا بين براثن الخطر!
من المؤكد أن ليس للعامة من شعبنا الكردي علاقة بقرار خدمة أميركا أو الانفصال عن الوطن، بل إنّ ذلك يجسّد طموحات البعض في الزعامة والثراء، ويدرك هؤلاء في أعماقهم أنها مرحلة ستزول حتماً ويخرجون بنهايتها من أرض الوطن فيستبدلوها بوطن آخر طالما امتلكوا الثروة، ولن يتورّع بعضهم في طلب اللجوء من الدولة التركية، بل ربما فعلوها.
القضية الجديرة بالدراسة والتحليل من قبل الفاعليات الكردية المثقفة والوطنية هي مجمل التجارب التي مرّوا بها عبر التاريخ، وخيبات الأمل التي واجهوها، سواء مع الغربي الأميركي أو الشرقي الروسي، وحتى أيّ دولة من دول الاستعمار الأوروبي، ثم الخلوص إلى قناعة بعدم جدوى الاستمرار في الحلم المستحيل، والعمل على الإيمان بالولاء الوطني الحالي، والارتباط العرقي العشائري القبلي بحيث لا يتعارض مع الولاء الأول الوطني – وهذا ليس الكرد وحدهم المطالبون به بل كلّ العرقيات والاثنيات التي تشكل المجتمع السوري الوطني وعدم الوقوع في الخطيئة مجدّداً فللغرباء أهدافهم المرحلية التي تستثمر أحلام الشعوب ثم تتخلى عنها وتتركها لمصيرها، ولأميركا سوابق لا عدّ لها ولا حصر في التخلي عن الأدوات وليس لأميركا حلفاء بالمطلق حتى الدول الأوروبية.. تابعوا ما يحصل على الساحة الفرنسية.. وما يتبع، قريباً تتخلى عنكم بالاتفاق مع التركي الذي لن يتورّع عن مهاجمتكم واحتلال الأرض بذريعة منع قيام دولة انفصالية تهدّد حدوده، فهل تعتقدون أنّ الحكومة السورية ملزمة بالدفاع عن انفصالكم أو طموحات من يتجهون لتحقيق زعامتهم على الأرض على حساب قضاياكم في العدالة والمطالب المشروعة التي لم ترفضها الحكومة السورية؟
أن لا تتذكروا تجارب مساركم التاريخي معناه أن ليس لكم ذاكرة… كالأسماك تماماً.