لماذا التّوجّس من شعر الومضة؟
د. باسل بديع الزّين
أطلق ملتقى الأدب الوجيز سلسلة ندوات حواريّة تُعالج مسألتي شعر الومضة والقصّة القصيرة جدًّا في سياق تفاعليّ حضاريّ وفكريّ رفيع. والواقع، أنّ هذه الأمسيات لم تأتِ من باب عرض تجربتنا أمام الآخر وحسب، بل أتت لتُكرّس الحوار كقيمة ضروريّة لا غنى عنها في معرض أيّ عمل ثقافيّ. وتكريس الحوار، كما هو معلوم، يتطلّب قبل كلّ شيء قبول الاستماع إلى الآخر وقبول انتقاداته ومناقشته بها والوقوف على مندرجات آرائه والاحتكام فيها إلى لغة الجدّة والرّصانة. من هذا المنطلق، جاءت مبادرة الشاعر والناقد أمين الذّيب وأعضاء الملتقى لتدعو الآخرين إلى مناقشة تجربتها وتفصيل القول في مضامينها مُرحّبة بأيّ رأي مغاير. بيد أنّ المشكلة تكمن في توجّس البعض من هذه الحركة التّجديديّة إلى حدّ رفض كلّ صور الحوار الفاعل والانطفاء داخل الأسوار الّتي اختطّها هذا البعض لنفسه كنوع من الاحتراز المسبق!
وعليه، يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا هذا التّوجّس من الأدب الوجيز بعامّة، ومن شعر الومضة بخاصّة، وسأقصر مداخلتي على البُعد الثّاني، وأعني شعر الومضة لأنّه أكثر التصاقًا بما نصادفه وبما أقع عليه شخصيًّا من تجاربي مع بعض الشّعراء.
حقيقة الأمر، أنّ هذا التّوجّس يجد مردّه في ثلاث خلفيّات لاواعية سأحاول تبيانها على التّوالي:
1ـ استبدال مقدّس بمقدّس: يُطالعك بعض الشّعراء بآراء غاية في الجرأة والجدّة، وبخاصّة في ما يتعلّق بوظيفة الشّعر. هوذا شاعر يُطري على اللغة التّهديميّة للشّعر، وآخر يتلو على مسامعنا شعارات من قبيل ضرورة تعرية الحقيقة كاملة والتّعاطي مع كلّ شيء في سياقه التّاريخيّ الصّرف، فالتّاريخ هو الحامل الأكبر ولا صوت يعلو فوق صوته.
جميلة تلك السّياقات التّنظيريّة لو أنّها لم ترسف عند حدود التّنظير وحسب. وهنا حقّ لنا أن نتساءل: لماذا احتكم هذا الشّاعر أو ذاك إلى ضرورة فضّ حجب المقدّس بعامّة والدّينيّ بخاصّة، ثمّ ما لبث أن استكان أمام وطأة بحور الخليل أو تهويمات التّفعيلة مُفاخرًا بصنعة زائفة ونظم بائد؟ ألم يُقدم بتمسّكه هذا على استبدال المقدّس الدّينيّ بمقدّس لغويّ؟ وأيّ ضير في الخروج على قواعد اختطّها الأغيار لنا؟ وكيف نفهم الغيارى على القوميّات المفترضة من باب اللّغة؟ وهل القوميّات باتت أكثر قدسيّة من النّصّ الدّينيّ؟ حقيقة الأمر أنّ وراء الأكمة ما وراءها ونعني تحديدًا: الحفاظ على المكتسبات.
2ـ الحفاظ على المكتسبات: إنّ الشّاعر الخليليّ، إذا جاز التّعبير، يعي جيّدًا أنّ الوظيفة التّأثيريّة الّتي يرومها ترتكز على صنمين اثنين: إيقاع الوزن والقافية وهو إيقاع هجين، وتوفّر جمهور يطرب خبط عشواء من دون أن يعي عمق الفكرة أو يستشفّ شيئًا من عمق الإيقاع وعلاقات التّجاور وحرفيّة اختيار الكلمة واستحالة استبدالها. إنّ الشّاعر الخليليّ، وإن بدا الحكم قاسيًا، يشعر بالأمان وهو يدور في فلك عائلته الوزن، فهذا الأخير يُشكّل ملاذًا ماضويًّا يضمن له الاستكانة والتّطويب في آنٍ معًا. الاستكانة إلى جملة معايير يعمل وفاقًا له وهي غالبًا ما تكون انعكاسًا لجملة مخاوف لا يجسر على الخروج عليها، تحمل في الأعمّ الأغلب طابعًا دينيًّا صرفًا لذا نجد أنّ معظم القصائد الكلاسيكيّة المنظومة في عصرنا اليوم تُعنى بقضايا مناسبتيّة دينيّة رثائيّة كانت أم تمجيديّة أو ما لفّ لفّهما. وقد يعارضني البعض قائلاً: ماذا عن القصائد الكلاسيكيّة التّهديميّة؟ هنا تتجلّى بوضوح رغبة الشّاعر في التّطويب والحفاظ على المكتسبات. وهذا النّوع من الشّعراء قد ضمن لنفسه جمهورًا معيّنًا يتوجّه إليه ويسعد بتعليقاته المُبجِّلة وإعجاباته الطّارئة فيضمن لنفسه ضربًا من الطّمأنينة. والأمر نفسه يُقال عن معظم شعراء التّفعيلة . ومردّ كلّ ذلك هو الخوف من معركة التّجديد، والاكتفاء بالمكتسبات الّتي حصل عليها.
3ـ الخوف من خوض غمار التّجديد: إنّ عدم الاعتراف بالمأزق مأزق مضاعف، ومعظم الشّعراء الّذين استنكفوا عن إبداء الرّأي في شعر الومضة هم شعراء لهم مكتسباتهم وتطويباتهم، فضلًا عن كونهم رسموا حدودًا لتقدّمهم ورسفوا عندها. وإلّا ما بالهم لا يلتفتون إلى المآزق الّتي تواجهنا وتواجههم؟ وهل يملكون الجرأة الكافية ليعترفوا بأنّ قصائدهم باتت استجلابًا لعواطف وئيدة وتجارب بليدة؟ وهل لهم أن يُواجهوا الاجترار الّذي انطوت عليه قصائدهم؟ ومن ثمّ هل يجرؤون على خسارة الفئة الجماهيريّة الّتي تلوّح لهم وتشيد ببنائهم وتطوّب أعمالهم؟
حقيقة الأمر، أنّ مواجهة المنعطف الكارثيّ الّذي وصل إليه الشّعر اليوم يتطلّب وقفة جريئة مع الذّات قبل الآخر، وهذا يتطلّب جملة أمور نوجزها في ما يلي:
1ـ الاعتراف بأنّ الأشكال التّقليديّة للشّعر، بما في ذلك قصيدة النّثر أو النّثر الشّعريّ أو الشّعر الحرّ، باتت تواجه مآزق وجوديّة تهدّد كيانها نفسه، ومردّ ذلك إلى أنّ الآليّات المستخدمة قد عفا عليها الدّهر، وباتت بحكم المنتهية إبداعيًّا. وما المكابرة إلّا نوع من الصّلف وعدم القدرة على مواجهة المشكلة بعمق وتبصّر جليلين.
2ـ حاجتنا إلى نوع أدبيّ جديد، يفرغ الطّاقات من معاقلها ويؤمّن لها سبل العبور من القوّة إلى الفعل الحقيقيّ، ذلك أنّ الشّكل لا ينفصل ها هنا عن المضمون. وبتعبير آخر، إنّ حاجتنا إلى مضمون تجديديّ رؤيويّ مبتكر وطريف لا يُمكن أن يتمّ من خلال الرّسوف عند الأشكال التّقليديّة للتّعبير. وبصراحة تامّة، لا يُمكن للقوالب التّقليديّة أن تستوعب حجم النّقلة التّجديديّة الّتي ننادي بها، وهنا يبرز تحديدًا دور العودة من اللّطافة إلى الكثافة.
3ـ العودة من اللّطافة إلى الكثافة: إنّ هذه العودة محكومة بجملة اعتبارات أبرزها:
أ ـ الإيغال في البحث عن المعنى الشّفيف والبعيد، والقبض عليه خالصًا وبريئًا من كلّ الإضافات والحشو.
ب ـ تقنيّة التّأثير الفاعلة: يبحث شعر الومضة عن إحداث تأثير فاعل في نفس المتلقي، تأثير يُتيح لهذا الأخير أن يُعمِل فكره وذهنه من أجل الوقوف على المعاني التّفكريّة البعيدة والصّور النّائية، بحيث يغدو مشاركًا للكاتب في عمليّة الكتابة.
ج ـ احترام عقل المتلقي: يفترض الأدب الوجيز وجود قارئ مثقّف وواعٍ لذا تره يضطلع بمهمّة احترام هذا القارئ ومخاطبته بلغة تليق بكاتبها وتحرص على كونها لغة تخاطب الأذهان لا الغرائز وتشحذ الفكر لا الحماسة الفارغة. وبتعبير أوضح، إنّ وجود فئة جماهيريّة تطرب لسماع الغثّ والرّدي يعود بالدّرجة الأولى إلى غياب النّصوص الحقيقيّة العميقة والفاعلة.
بوجيز العبارة، إنّ التّوجّس من شعر الومضة هو توجّس من المكتسبات الّتي اختطّها بعض الشّعراء لأنفسهم، فضلًا عن غياب الجرأة الواعية والواعدة في التّعاطي مع المنعطفات التّاريخيّة والأدبيّة بوعي كافٍ وعمق وافٍ. ومن المعلوم أنّ النّهضة إن لم تتطلّب قطيعة تامّة مع السّائد والموروث، فهي تتطلّب في الحدّ الأدنى مكاشفة الذّات لذاتها، وإلّا لرسفت عند حدود أوهامها محتفية بالتّطبيل والتّزمير.
عضو ملتقى الأدب الوجيز