قراءة في ديوان أنثى المعنى للشاعرة لارا ملّاك
أمين الذيب
عنوان الديوان هو الإشكالية الكونية الأولى التي تنساق ضمن إشكاليات متتالية جعلت مُهمة تفكيك النصوص مهمّة نقدية شاقّة لعدم تحققها واكتمالها فاكتمال المعنى يندرج في سياق الألوهية أي المعرفة الكليّة التي تحاذي هيولى وجودية غير مدركة بذاتها إنما موحى بها من مُخيلة شاعرة دفعت عن قصد أو غير قصد كونيّتها أمام معشوق أوكلته البحث عن معناها كي يكتمل معنى أنوثتها الأنثى عندها تخلع صلصالها تبتكر حروفاً لألوهيتها في الوقت الذي تعتقد فيه واهمة أن حالة ذكورية ابتكرتها. ذهبت ببعض قصائدها الى أبعد من سفر التكوين فكيف لرجل صيّاد ماكر أن يصطاد أبعادها الرؤيوية إن لم يكن حكيماً من سلالة الأنقياء الموحى اليهم سرَّ الابتداء. رحلة الديوان اندهاش، عشق، انصهار، ارتقاص خيبة بُكاء عويل موت القيم استدارة الوعي في إرادة الوجود، الانبعاث نفض الرماد الأسود الإقبال على الحياة. تخالها أي الشاعرة تتقمّص في عشقها حكايات جلجامش وهو يصارع خمبابا شيطان غابة الأرز المخيف تختصر ماضيها بهذه الرؤيا كانت بحاجة لأنكيدو الذي علّمته غانية ضاجعها لسبع ليالٍ المدنية وأنقذته من تقاليد الوحشية الحيوانية أي التقاليد البالية أنكيدو كان حاجة لانبثاقها هو الذي حرّك بموته الاجتماعي القيمي ذاته مفاهيمها المُنبجسة بلا وعيها كمحاولة لإعادة ترتيب الخلق بشعوريّة مُغايرة.
هذا الإحساس الشعوري الذي تجسّد شعرية فائقة الانبلاج والتوقّد جعلت من ديوان «أنثى المعنى» أشدُّ دلالة من معناه المُفترض وقد يكون من الدواوين القليلة الهامّة التي قرأتها في الآونة الأخيرة وهو دون شك يحتاح لقراءات نقدية شاملة لتزاحم الرؤى لشاعرة هبطت من صحراء قاحلة الى وهم المدينة فاقتبست ذاتها على قارعة الانبهار ومنحت عشاقها صيرورة زمانها أشعلت البخور فداء مذبحها فلم تُدرك معناها العميق بسطوة الكلام المُنمّق الذي أحال أذنها الى فضاء وأوحي اليها بالنطق، كما أعتقدت أنه ولادة فمها لارا ملّاك ابتكرت ذاتها الشعرية صقلتها المُعاناة الحثيثة فانفجرت بكاءً وشعراً وإنساناً يقي طفولتها المذبوحة بكتاب يحفزها على البقاء والإبداع فكانت أكبر من ألمها وأقوى من عشاقها وأشعر من شعراء البوق والضجيج المفُتعل. لا شكَّ في أنها قامة شعرية شاهقة مرتكزة على علم ومعرفة أضافا الى إبداعها التكويني إبداعات تُقربها من البلوغ الإنساني النقي.
أعتقد ان الديوان إضافة شعرية معرفية ناضجة يستحيل ان يكون الناقد أو المتلقي محايداً في قراءته القصيدة الواحدة تستفزكَ بتكوينها البلاغي والدلالي المنهمر كأسطورة تبحث عن صلصالها لتنحت معشوقاً يبتكرها فتحيله قصائدها وثناً ينكسر من وطأة الحب فتقيم صلاتها في معابدها المتخيلة كآلهة تؤسس لمفاهيم مغايرة لمعنى المعشوق الذي يليق بأنوثتها سكنت في أكواخ باعة الجرائد لتُدثر جسدها لغة متوخاة تليق بوحيها المسكون بطفولتها العصيّة على النضوج وتغاضت عن فكرها المصقول بالتجربة والتحصيل فتسبق اللغة أو تستحيل اللغة بها مدخلاً للفكر والفلسفة تقول «الحب انبساطٌ شعوريّ كيٌّ لتعرجات الروح» وكأنها حضور كوني يكتشف معالم الانصهار بالآخر كي تستقيم صيرورة الإنسان من الالتواء النفعي كلمتان تتجاوز بهما جلال الدين الرومي وأوشو للكون معنى واحد الحب الحب الذي يماثل الإنسانية بجوهرها الهيولي بقيمها الوجودية بسمّوها وارتقائها. وتقول الشاعرة في قصيدتها الأولى «قد أُهديكَ صليبي يوماً قد يُريدني دمك خلف ضفاف الجفن». الصليب رمز لصلب المسيح بعد وضع إكليل من الشوك فوق رأسه هو رمز لقتل الذات الإلهية التي تحملت الآلام لإنقاذ البشرية قد يريدني دمك هذه القد احتمالية لولا ضفاف الجفن مدى من المكنون في هذا النص أهي رموش العين لولا البلاغة لماء يجري في نهر الهوى الذي يتجاوز الذات أو ماء الرحم الذي يختصب حين أرادها دمه. كل هذه الاحتمالات تقع في انتظار الشاعرة لشهوة الاكتمال. في القصيدة الثانية تقول «أنا والعكس نحبّكَ لأنكَ نحن». يكاد النص ان ينقلك الى السرد الملحمي عند «بريخت» أو على تلفيق افتراضي وتخييلي لخلق شخصيات وأجواء وصراعات على الورق كما عند واسيني الأعرج في أنثى السراب النقائض تتبدّى وتتوارى في لعبة الزمن.
فالمعرفة ناتج فكري حتى في المسائل الشعورية لا عين للضوء إنما للبصيرة المتوقدة الماء ليس نقيض الصلصال كأن نقول المعرفة نقيض الجهل إن محاولة الشاعرة لجمع تواترها وتشلقها وافتراقها في قاطرة عشق واحدة قد يحدث في النظرية التي تنجرف عندها الى حدّ القدرة على إسقاطها على الواقع المُتخيل ربّما.
ولا أدري لماذا «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» للشاعر التشيلي بابلو نيرودا سكنتني وأنا أقرأ أنثى المعنى عندما يقول لحبيبته ماتيلدا «ثمّة أمر أهمّ منك ومنّي، إنّه أنت وأنا، معاً نكون ما لا يبلغه الناس المساكين قط».
وفي قصيدة لماتيلدا من ديوانه الملحمي في عشقها «مئة سوناتة حب»:
«ماتييلدا، اسم نبتة، أو صخرة، أو نبيذ،
اسم أشياء تبدأ في الأرض ولا تنتهي،
كلمة ذاك الذي لنموه تفتَّح أول فجر،
وفي صيفه انفجر ضوء الليمونات»
تقول لارا ملّاك على صفحة الغلاف الأخيرة من ديوانها:
الشوق حبّة جوز
تسقط ولا تُسحق
حبّة الجوز مغامرةٌ
مؤامرة
ضبطتها الأرض
أقفلتها
تنسى في حاضرها أن تتنفّس
أكرّر هويتي على مسمعي
فلا أسمع
تكرّرني أنت
أتذكّر.
قصيدة «أمنيتان» تقع في السردية فجأة لولا «الغمام نومٌ في مكانين» تستجدي الحلم كي تتحقق أمنياتها القلقُ محور القصيدة دون منازع.
«واستدارت أنجمي» قصيدة سردية وصفية عرفانية لمن علّمها الخطوة الأولى وعادت الى دمى طفولتها لتُضفي على المعشوق صفة الخلق خلقها وابتكارها وهذه مغالاة طفولية من الشاعرة أنكرت فيها ذاتها الوجوديّة ثلاث مرّات قبل صياح الديك. في قصيدة «لا تنسَ» اصطنعت الشاعرة الحمل منذ الأشهر الأولى ثمّ تريثت مسافرتها فيه «ثمن رحلتي لون» اللون المكنون قد يكون لون دم أنوثتها أو لون طرحة الزفاف البيضاء.
مروحة جديدة من الإبتكارات في قصيدة «لن تفارقني» تسأل الشاعرة مَن سيدفن سريري معي سؤال استقصائي لمرتبة الرجولة المُتشكِلة في لا وعيها حيث يتشكّل معناها الأقصى كملكة تأتلف سريرها الزمني تُحصي معالم أنوثتها وعطورها وزينتها لاهوت شمس طالعة في أسفلها، وناسوت نعاسها السرمديّ المحفور فوق وعيها قصيدة إنه أبعد من زمن النواويس وأقرب من بهجة طفلة للمرّة الأولى يتجاوز النصّ الحالة الشعوريّة «سيسمعني انتظاري» صورة أبعد من الخيال رسمها توق إنساني في مخاطبة ما لن يأتي بعد استباق الزمن بلحظة شغور الراهن من الامتلاء وكأنها ترمز الى ان الشعر رديف الكون.
المُدهش أن تستنبط الشاعرة جلجلة آلامها منذ القصائد الأولى للديوان اقترفت صليبها كشاعرة ترتب حروفها المُبعثرة لتكتمل نبوءتها العالقة في صقيع يحجب عنها همس المراحل، حيث يستحيل التفكيك الموضوعي لتشابك الكون والحياة والطبيعة بعناصرها التكوينية الغامضة كانت ترتجل كونها وكينونتها اقتنصت بالحبر متاهاتها رسمت على نوافذها إشارات عبور للمكنون والمكبوت فضّت بكارة معناها فولّدت نصوصاً أسكنتها ديوانها تماماً كفكرة الصلصال الذي ينتظر نفح الروح فيه.
مؤسس ملتقى الأدب الوجيز