أردوغان وتعاون الضرورة مع بوتين!
د. تركي صقر
شكل أردوغان الشيطان الأخطر في الحرب الإرهابية التي تشنّ على سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف، ولم يكن متوقعاً أن يغير شيطنته وينقلب على نفسه ويخطو نحو البحث عن مقعد في قطار أصدقاء الحلّ للأزمة في سورية، لولا انكساراتٍ ورهاناتٍ فاشلة وأوراق محروقة حشرته في الزاوية وجعلته متلهفاً لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة، عله يجد في الجعبة الروسية بطاقة تخرجه من المأزق الحاد الذي وصل إليه.
أولى انكسارات أردوغان وهزائمه المريرة تمثلت في سقوط مشروعه الإخواني في مصر وتتالت الانهيارات في ليبيا وتونس، فكان الانهيار الأكبر في سورية. وأصابت هذه النكسات مقتلاً عندما خلفت وراءها قطيعة وعداواتٍ مفتوحة مع مصر والإمارات والسعودية، ناهيك عن حرب لا تهدأ مع سورية، ما أغلق بوابات المشرق والمغرب العربي في وجه أردوغان وأحلامه الطورانية بالتربع فوق عرش الشرق الأوسط، كما وعدته الإدارة الأميركية في صفقة إخوانية أميركية معروفة سبقت انطلاق ما سمي بالربيع العربي سيء الصيت.
كذب أردوغان على نفسه وصدق الأضاليل بأنّ النظام السياسي في سورية قاب قوسين أو أدنى من السقوط لا محالة، وراهن على معارضة صنعها واحتضنها، رغم أنها فاقدة لأي فعالية أو شعبية على الأرض، فأصيب بخيبة أمل خانقة دفعته إلى تبني تنظيمات إرهابية كـ»داعش» و«النصرة» وأمثالهما، وتماهى معها دعماً ومساندة وتحالفاً إلى درجة لم يستطع الانفكاك عنها والالتحاق بالتحالف الدولي الذي دعته إليه الولايات المتحدة لمحاربة تلك التنظيمات في العراق وسورية، وجاء اجتياح «داعش» لعين العرب وقراها ليكشف نوايا حكومة أردوغان الإرهابية على حقيقتها.
أراد أردوغان، من خلال عين العرب، أن يفرض شروطه للدخول في التحالف الدولي وفي مقدمة تلك الشروط، أن تشمل الضربات الجوية قصف مواقع الجيش السوري وإقامة منطقة عازلة وحظر جوي في الشمال السوري.
لم تنجح زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة في حلّ الخلافات بين الطرفين، واكتفت الإدارة الأميركية بتكليف حكومة أردوغان بتدريب من أسمتهم واشنطن «معارضة سورية معتدلة»، وهذا أمر لم تتوقف عنه السلطات التركية منذ ما قبل بداية الأحداث في سورية.
تتالت الخيبات والصفعات التي تلقاها أردوغان وكان آخرها عدم موافقة واشنطن على إقامة منطقة حظر جوي في الشمال السوري أو حتى منطقة محمية، وأعلنت صراحة أنها ليست في وارد قصف مواقع الجيش السوري، وأن ليس في خطط التحالف الدولي حتى الآن التدخل البري في سورية، فاستعر الخلاف بين الطرفين حول مواجهة «داعش» في عين العرب وجرى تراشق بينهما ووصف أردوغان التصرف الأميركي بالجنون وتزايدت شكوك أنقرة بالخطط الأميركية حين ضغطت لإدخال قوات من البشمركة إلى عين العرب عن طريق تركيا، فأيقن أردوغان أنّ هناك مخططاً أميركياً لمعاقبته على رفضه الدخول في التحالف الدولي وقد يخرج من المولد السوري بلا حمص، لذلك كان أمام خيار الضرورة الوحيد الذي اضطره إلى التعاون، مرغماً، مع بوتين وهو الخيار الذي يحقق للكرملين اختراق العقوبات الغربية والأميركية ويخفف من آثارها على الاقتصاد الروسي المحاصر.
في ضوء انسداد أفق التعاون التركي مع مصر والسعودية وغالبية الأنظمة العربية واضطراب العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، ندرك مدى لهفة أردوغان للقاء الرئيس بوتين، بعد أن كال له سابقاً الاتهامات تلو الاتهامات لوقوفه إلى جانب سورية في أزمتها، حتى وصل به الأمر إلى الزعم بأنّ روسيا تقتل الشعب السوري، بتنفيذها عقود شراء الأسلحة مع سورية، وفي الموضوع الأوكراني كانت له مواقف أكثر تشدّداً من بعض الدول الأوربية، وخاصة فيما يتعلق بانضمام شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، ولكنّ الضرورات تبيح المحظورات، وخصوصاً إذا كانت مترافقة مع قلق عميق وخوف متزايد من الحليف الأميركي الذي بدأ يريه العين الحمراء ويلوِّح له بالورقة الكردية ويشعره بتضاؤل دوره على الساحتين الإقليمية والعربية وضعف تأثير عصاباته المسلحة وشراذم المعارضة المرتبطة به على الأرض السورية.
صحيح أنّ زيارة بوتين غلب عليها الطابع الاقتصادي، فكانت حزمة مشاريع الاستثمار والطاقة والتجارة البينية المعروضة على الجانب التركي أكثر من المتوقع، لكنّ الواضح أنها لم تكن صفر تقارب على الصعيد السياسي كما وصفها بعض المحللين، إذ متى كان الاقتصاد بعيداً عن السياسة ولا يخدمها فما جرى خلال الزيارة وخاصة المؤتمر الصحافي المشترك، قد وجَّه رسائل واضحة إلى الغرب وأميركا أولها كسر العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وثانيها وجود نوايا لخلق بيئة تعاون بين المتضرّرين من السياسة الأميركية في العالم، وثالثها وجود استعداد لدى الحكومة التركية للتعاون لإيجاد حلّ سياسي للأزمة في سورية، حيث دعا أردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك إلى أن يكون هناك دور أساسي تلعبه كل من روسيا وإيران وتركيا للوصول إلى هذا الحلّ.
من الصعب أن يصدق المرء أنّ أردوغان سوف يبدّل جلده أو يغير طبعه الشيطاني القائم على اتباع سياسة الكذب والمراوغة والابتزاز، فالطبع يغلب التطبع والأحداث السورية قدمت الأدلة القاطعة، لكنه وصل أخيراً إلى يقين بفشل السياسة الأميركية في المنطقة إلى حدّ الإفلاس، وأدرك أنّ أوراق الحلّ السياسي للأزمة السورية بشكل خاص في معظمها لم تعد في يد واشنطن، مسلِّماً بأنها أضحت في يد دمشق وحلفائها الروس والإيرانيين، لذلك سارع إلى الطلب من بوتين أن يكون له دور معهما قبل أن يفوته القطار، فيما أسمعه بوتين وفي عقر داره، أنّ روسيا لن تسمح للإرهاب أن يُسقط الدولة السورية، وأنّ انتخابات الرئاسة في سورية أظهرت تأييداً شعبياً كبيراً للرئيس بشار الأسد لا يمكن تجاوزه أو القفز من فوقه.