بنيويّة مضت بعيداً في نفي الفلسفة والنزعة الإنسانيّة

جورج كعدي

الأنتروبولوجيا البنيويّة فرع معرفيّ جديد فرض نفسه في الحقل العلميّ المعاصر وجذب الأنظار إليه بفضل التجديد المنهجيّ الذي أتى به، إذ طُبِّق المنهج اللسانيّ البنيويّ للمرّة الأولى في دراسة ظواهر اجتماعيّة وثقافيّة، كما أطلقت أطروحاته ومسلّماته سجالات ومناقشات. ولا شكّ في أنّ أشهر الأسماء الرائدة في هذا الحقل المعرفيّ الحديث هو كلود ليفي ـ ستروسّ الذي استخدم عبارة «إتنولوجيا Ethnologie» للدلالة على فرع تخصّصه، إلى جانب عبارة أنتروبولوجيا ثقافيّة واجتماعيّة.

احتلّت الأنتروبولوجيا البنيويّة مكانة مرموقة بين العلوم الإنسانيّة الحديثة، وحازت شهرة كبيرة نظراً إلى تنوّع الميادين التي اهتمّت بها، ولثرائها وجدّيتها. وأعلن ليفي ـ ستروسّ مراراً رفضه التأويلات التي تعتبره رائداً لفلسفة جديدة، مؤكداً بإصرار أنّه لم يأتِ بفلسفة جديدة إنّما اقترح منهجاً جديداً. لكن، رغم هذين الرفض والتأكيد، قرأناه مثيراً من جديد مناقشة عميقة حول عدة مواضيع متّصلة بالفلسفة مثل طبيعة العقل البشريّ، والسلوك العام للإنسان، ومكانة الإنسان في العالم وداخل التنظيم الاجتماعيّ. فنتائج أبحاثه وخلاصاتها على ضوء المنهج البنيويّ أسفرت عن أطروحات فلسفية ألهمت التيّارات المناهضة للنزعة الإنسانيّة وأمدّتها بعناصر وأفكار تحيل عليها وتعتدّ بها.

يذكر ليفي ـ ستروسّ في مؤلّفه «مدارات حزينة» أنّ مصادر إلهام ثلاثة كان لها دور كبير في توجيه أبحاثه نحو البنيويّة، بالإضافة إلى تأثّره وإعجابه بأفكار وروّاد سابقين في ميدان الأنتروبولوجيا. والملهمات الثلاث هي الجيولوجيا والتحليل النفسيّ والماركسيّة. أمّا العامل الحاسم الذي منح أبحاثه توجّهها النهائيّ فكان تعرّفه إلى البنيويّة التي أتاحت له أن يكشف قيمة المنهج الذي تقترحه، والآفاق التي يفتحها أمام العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. ونقرأ له في هذا السياق: «تقترح البنيويّة على العلوم الإنسانيّة نموذجاً ابستمولوجيّاً هو من التماسك والقوّة بحيث لا تمكن مقارنته بالنماذج التي اشتغلت عليها سابقاً. فهي تكشف أنّ وراء الأشياء وحدة وترابطاً لا يمكن أن يظهرهما مجرّد وصف الوقائع المعروضة أمام أنظار المعرفة في حالة تشتّت وفوضى. إنها وهي تأخذ في الاعتبار وخلف الوقائع التجريبيّة، العلاقات التي تجمعها، تسجّل وتتحقّق من كون تلك العلاقات هي أكثر بساطة وقابليّة للتعقّل من الأشياء التي تربطها ذاتها، تلك الأشياء التي تظلّ طبيعتها النهائيّة مجهولة، لكن من دون أن تشكّل هذه العتمة الموقّتة، أو الدائمة، حاجزاً أمام تأويلها».

الطموح الكبير الذي تنشده الأنتروبولوجيا البنيويّة الجديدة هو اكتشاف بنية العقل البشريّ من خلال تحليل ثوابت إنتاجه الثقافيّ. ولا علاقة للتحليل البنيويّ بالاستنباط القبليّ الميتافيزيكيّ، فطموحه الأكبر هو إثبات كونيّة Universalit العقل البشريّ. فإذا كانت الوظيفة الرمزيّة للعقل البشريّ هي الأصل في نشأة الثقافة، فإنّ الإشكال المطروح لم يجد حلاً له بعد، ذلك أنّ هذه الوظيفة نفسها في حاجة إلى تفسير، وبالتالي فإنّ تفسير الثقافة متوقّف عليها، ومن الضروريّ العودة إلى الطبيعة ذاتها للبحث عن أصالة الثقافة. ففي «مدارات حزينة» 1955 تبلورت لدى ليفي ـ ستروسّ عناصر اتجاه تام إلى نفي خصوصيّة الظاهرة الثقافيّة التي يُعتقد أنها هي التي تميّز أساساً الوجود البشريّ، بل إلى نفي خصوصيّة الإنسان نفسه الذي بات ينظر إليه على أنّه «زهرة فانية قد تفتّحت على الجذع المشترك للطبيعة». وتوضّحت معالم ذاك الاتجاه في الدرس الافتتاحيّ الذي ألقاه في الكوليج دو فرانس عام 1960 لمناسبة تولّيه كرسي الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة والثقافيّة، وكان أعلن فيه أنّ لغز ظهور الثقافة سيظلّ «مستعصي الفهم على الإنسان، ما لم يتمّ التوصّل على المستوى البيولوجيّ إلى تحديد المتغيّرات البنيويّة أو الوظيفيّة التي حدثت في الدماغ وكانت الثقافة نتيجتها الطبيعيّة». لكنّ الموقف النهائيّ الذي استقرّ عليه ليفي ـ ستروسّ حول إشكاليّة العلاقة بين الطبيعة والثقافة يمكن صوغه كالآتي: ليست هناك بين الطبيعة والثقافة قطيعة جذريّة، وفي الإمكان تصوّر ردّ الثانية على الأولى، وهذا ما تطمح البنيويّة إلى تحقيقه.

يؤكّد ليفي ـ ستروسّ أنّ العقل حين يشتغل يستمرّ في العمل بنيويّاً في مادة تُعطى له وقد تشكّلت من قبل بنيويّاً، بل يذهب أبعد من ذلك حين يسلّم بوجود غائيّة عميقة معدّة ومبرمجة منذ البداية هي التي تؤسّس للانسجام المسبق بين عقل الإنسان وجسمه والعالم. وكتب في هذا السياق في مؤلّفه «النظر من بعيد»: «إنّ العقل ذاته، والجسم، والأشياء، تشكّل عناصر لا تتجزّأ مع واقع واحد»، من هنا ندرك أنّ العقل البشري هو من طبيعة الواقع نفسه الذي يدرسه ليفي ـ ستروسّ! ويحاول معرفته، وأنّ ثمّة تطابقاً بين العقل والواقع، وبين المنهج الذي يستخدمه العقل لمعرفة الواقع والمعارف التي يتوصّل إليها بواسطة ذلك المنهج البنيويّ الذي يرى البعض أنه يغرق في الشكلانيّة أو يحلّق في سماء التجريد، وأنّه ضرب من اللهو والمجون الفكريّ.

يشير ليفي ـ ستروسّ في «مدارات حزينة» إلى أنّه يدين لنظرية التحليل النفسيّ كثيراً، فهي إحدى ملهماته الثلاث. لكنّه يؤكّد كذلك في المقدمة التي وضعها لأعمال مارسيل موس أنّ اللسانيّات هي التي أثارت اهتمامه وجعلته يأتلف مع فكرة اللاشعور، أي مع فكرة أنّ «الظواهر الأساسيّة لحياة العقل، تلك التي تحدّد أشكاله الأكثر تعميماً، موجودة في مستوى الفكر اللاواعي». ومن هنا نفهم لِمَ فقد مفهوم اللاشعور الدلالة التي كان يحملها في نظريّة التحليل النفسيّ لدى نقله إلى الأنتروبولوجيا البنيويّة عبر اللسانيّات. واقعاً، لا تحيل دلالة اللاشعور في الأنتروبولوجيا البنيويّة على الكبت ولا على أيّ واقع غريزيّ محدّد، إنّما تعني لاشعوراً مقوليّاً Cat goriel يتّصف أساساً بقدرة على التركيب والتأليف. ومن منظار هذا التصوّر البنيويّ للاشعور، لا تبقى هناك سوى خطوة واحدة لتأكيد هويّة الفكر والوجود، وتطابق الطبيعة والثقافة. لكنّ الفكر المقصود هنا فكر غفل ومجهول، لا ينتمي إلى أيّ ذات. وهكذا يثبت ليفي ـ ستروسّ بالفعل براءته من «تهمة» النزعة الإنسانيّة، فموضوع الأنتروبولوجيا البنيويّة ليس الإنسان كذات لها خصائص وخصوصيّات وتتحلّى بالوعي والإرادة، بل الإنسان المغمور باللاشعور من كلّ ناحية. تبدو هنا كأنّها تُقتلع من الجذور أيّ أساس للنزعة الإنسانيّة، على ما يقول ميشال فوكو في آخر كتابه «الكلمات والأشياء»، فليس هدف البنيويّة الإنسان، بل الحقيقة العامة من خلاله… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى