إشكالية السؤال في الفنّ
د. منصور نعمان
مما لا ريب فيه أنّ السؤال في الفنّ أمر طبيعيّ. ففتنة الفنّ وروعته، وأحياناً عندما يكون الفنّ راقياً نقول: جلالة. إذ يختزل الفنّ بين طيّاته السؤال؟ وهل يمكن عدّ الفنّ سؤالاً في الحياة والوجود، وكيف لنا أن نختبر الفنّ في سؤال أو تساؤلات قد لا تكفي.
ما من فنّ من الفنون الراقية والمؤثرة إلا ويثير حفيظة المتلقّي ويتمركز في أعماقه ويثير سؤالاً ما. إنه علامة من علامات وجود الفنّ أن يطرح سؤالاً. فالنحت برمّته سؤال، والرسم بأنواعه سؤال، والمسرح بأشكاله المتنوّعة سؤال. السؤال قائم وإن تنوّعت الطرائق واختلفت. السؤال قد يكون ساطعاً مدوياً مؤثّراً. أو يتخذ السؤال وجهاً آخر متوارياً، متخفّياً، صعب الإمساك به، أو صعب فهمه.
ما الذي يجعل الفنّ يدور في سؤال؟ ألا يكفي الفنّ أنه يُشبِع ذائقتنا الجمالية فحسب؟ أم أن السؤال وسيلة لفهم الفنّ؟ ولكن، أمِن الضروري أن نتفهّم الفنّ؟ ألا يمكننا أن نتذوّق الجمال الفني ونشعر بروعته من دون أن نكون ممارسين للفنّ؟
بالطبع ممكن تذوّق الجمال الفني من دون أن نكون ملمّين بممارسة الفنّ. إذ يكفي أن نكون متابعين وشغوفين. أيّ كان نوع الفن هذا، فالحاجة إليه ملحّة للغاية. إلا أنّ المسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ. فإن كنّا فعلاً شغوفين نتلقى الصورة الفنية بقيمتها الجمالية، إلا أنّ ذلك لا يمنع بأيّ شكل من الأشكال، أن يثير كوامن المتلقي ويطرح سؤالاً ما. قد لا يكون السؤال مفهوماً، أو غير واضح التحديد، أو يكون السؤال بصيغة همّ ما، همّ جماليّ يدغدغ المشاعر أو يستفزّ الأفكار، أو شحنة شعورية دافقة باتجاه ما.
بكلمة أخرى، يمكن القول: إن الفنون عموماً، والفنون الصرفة خصوصاً، تتوجّه بسؤال، تشغل فيه الفكر ونواحيه المتعدّدة، هذا إذا لم تُثِر الكثير من القضايا التي تكون بمثابة المحرّكات المساهِمة في تشكل العوالم وتحديد غموضها ودرجته، وبالتالي سيتكوّن عالم من الغموض الذي يُكتّف المعرفة. فالتساؤلات لا تتوقف، وتلك واحدة من النعم المحفّزة لبلوغ درجة أعلى من الفهم واليقين بما يمكننا من سعي لفكّ الأسرار والطلاسم وغموضها. وقد ينبري أحدهم قائلاً: إن الفنّ وسيلة للتعبير، للفرح، لجعل الحياة أسهل وأقل صعوبة. لذلك تتم دغدغة المشاعر، أو نسيان حالات القهر والضياع في لبّ الحياة، لنكون قادرين على مقاومة الصعاب، أي تحفيز القدرة على التحمل. لكن للأسف، لن تكون هذه الإجابة هي الصائبة أو النافذة لجوهر الفنّ. إذ تكمن خاصيّة الفنّ بطرح السؤال، لا الإجابة عن السؤال.
ماذا لو أجيبَ عن التساؤلات؟ أليس المفروض أن تكون إجابات لما يشغل العقل؟ أمِن الخطأ وضع الحلول؟ أليس المرء بقادر على وضع خريطة طريق ليعبّر عن رهافة حسّه ودقّة عقله ورجاحته؟
الفنّ ليس تبسيطاً للحياة، إنما هو تعميق للقوانين ومفاهيم الحياة وطرائقها. الفنّ لا يبحث في التغيّر في مضامينه من غير تغيير الحياة ذاتها، وإن كان بأشكالها المبسطة، الفنّ نحت السؤال في الكيف الذي يتعامل فيه الإنسان مع الحياة، لا فرض شكل من أشكال التعامل قسراً. بمعنى أن الإجابات المتواجدة ضمناً. ففي الفنّ ينبغي أن تشغل الفكر وتقلقه وتضاعف التفكير فيها، لا أن تهدّئ الفكر ويسترخي الإنسان بأنه عرف الجواب. إن ذلك سيكون مضيعة للجهد والاجتهاد، والأدهى من كلّ ما تقدّم، أنّه سيكون إضعافاً لقوى التغيير الممكنة في الحياة. وإن حدث هذا الأمر، فلا أمل في تغيير الواقع.
إن الفنون أنماط واتجاهات وأشكال وأساليب متنوّعة. وهي تبحث في الكون والعالم والحياة. والفنان يلتقط الأفكار ويجتهد ببناء الصياغات الفنية المبتكرة، يتقصّد فيها الدهشة والصدمة المتولّدة عن تلك المواجهة بين العمل الفني والمتلقي. وقد ينشغل الفنان يفكّر بالطريقة التي يطرح بها السؤال عبر تجارب متعدّدة، هائلة في الصياغات الفنية أو الأسلوبية، وأحياناً يلجأ إلى ما يعزّز سؤاله بابتكار شكل فنّي جديد مغاير للمألوف والسائد، فيعيد تشغيل الجهاز المفاهيمي لمجتمعه الخاص أو للمجتمع الإنساني برمّته.
من هنا، يمكننا إدراك صعوبة عدّ الفنّ تزجية للوقت فحسب، ذلك أن الوقت ثمين ولا أبالغ بالقول إننا بحاجة إلى استثماره بأقصى درجة ممكنة. فقد يسرقنا تجّار الفنّ ومَن يقف معهم من أنصاف الفنانين أو أرباعهم، وأنصاف المثقفين فنياً وجمالياً، ببضاعة تدّعي الفنّ والجمال، إلا أنها تتقصّد الجيب، ويا ليت أنّها تتوقف عند هذا الحدّ، إنما تذهب هذه الأعمال الفنية إلى خاصرة الزمن، وتستشري وتتمطّى لتنهب الجمال المستقرّ في ذاكرة المتلقي ووجدانه. إنها أشبه بالفيروس الذي لا يعرف التوقف، إنما الانتشار والتأثير المستمرّ ومحاولة خلق مستعمرات مرضية في جسد الذائقة الجمالية لمتلقّي مجتمع من المجتمعات.
إنّ الفنّ الفاسد/البضاعة المخرّبة كلّ ما هو فتيّ وغضّ، والإشكالية أنها تطرح سؤالاً أيضاً. سؤال لا يخلو ظاهرياً من الأهمية. أما داخلياً، فإنّ السؤال معزول عن الأفكار بانية الجمال وسلّم الأفكار لترسيخ الحضارة الإنسانية. فقد يكون السؤال في البناء النفسي للإنسان، لكن كيفية طرح السؤال والسبل التي أراد أن يبلغها كانت محفوفة بالمخاطر. فقد يلجأ هذا الصنف من المحسوبين على الفنانين إلى الزوايا الأكثر مميتة لحيوية الإنسان. فقد تتم مغازلة الشهوات، والعري الفاضح، لا لغاية جمالية سامية، ولا لهدف أكثر من استدرار المتلقين، وكسبهم إلى جانبه. فإنّ مشاهدة لوحة مزيّفة لن تكون هي اللوحة الأصيلة بأيّ شكل من الأشكال. ومنحوتة أنجزت لضغط أو لحاجة يبتغيها الفنان في نفسه، لن تؤثّر، إنما تبقى عملاً، رقماً من الأعمال، سرعان ما يُنسى وتطويه الأيام بسهولة. أو تشاهد عرضاً مسرحياً هزيلاً، لا يرتقي إلى المسرح، ولا يقوى على استقطاب الجماهير إلا بما يثيره من حسّ فكاهي فجّ، وتلاعب بالألفاظ وسوقية سيئة. إنها تطرح سؤالاً أيضاً. سؤال يتوارى خلف الغايات، يتبجّح بقضية الإنسان، وفي حقيقته، يقتل المتعة الحقة للإنسان من خلال جعل الفنّ مقهوراً، مرهوناً للتجارة وتسيّدها للفنّ. فأيّ سؤال يسأله تاجر الفنّ غير المال وما يجنيه من أرباح؟
إنّ تساؤلات الفنون، تعضيد للوجود الإنساني لا ضدّه. إنها الجمال الذي يتوق بقوّة للاشتباك مع المرجعيات التي يحملها المتلقّي كي تُحدِث التغيير المرتقب، والتغذية الراجعة للمتلقّي.
خلال مشاهدة عرض مسرحيّ قيّم قد يمتدّ لساعة أو ساعتين، يكون التلقي جمالياً، سمعياً، حركياً، وبصرياً. وهناك مئات الصوَر والأفكار والمواقف، والأشكال والتكوينات، وأسلوب تنظيم الفضاء… إلخ، كلّها علامات تجتهد باختراق المتلقي، وتحمل في ثناياها أسئلة صغيرة تتجمّع لتكوّن السؤال أو التساؤلات الكبيرة.
جمالياً، تبقى الشحنة الانفعالية حاضرة بعد مغادرة العرض. وقد يحملها المتلقي لسنوات، تفكيراً أو تأثيراً. بطبيعة الحال، إنّ ذلك زمن مستقطع من زمن المتلقّي. فإن كان العرض ساحراً ومدهشاً ويضيف إلى المتلقّي فضاءات يتألق فيها، فإن السؤال الذي يبقى ماثلاً، سيكون سؤالاً مفيداً مطوّراً بانياً للإنسان ولمعرفته. أمّا إذا كان العرض هشّاً وبائساً، فإنّه يمتصّ من حياة المتلقّي الكثير من الزمن. فضلاً عن تشويه الذائقة الجمالية، وتهشيم السؤال الجوهري بسؤال استنزافيّ للمعرفة.
من هنا، كان للسؤال قيمة متفلسفة، والفنّ لا يركن لمباركة الموجود والقائم بقدر ما يبحث عن المستجدّ والمثير والأكثر قدرة على البناء، بما يجعل الحياة أكثر إشراقاً ودفئاً.