«دولة داعش»… «خلافة» الاستنزاف…!

محمد ح. الحاج

الحروب الكبرى لم تحصل مصادفة. قامت وتقوم وستقوم بناء على تخطيط وتصميم مسبقين، ولأهداف تختلط بين السيطرة على الثروات والنفوذ والسيطرة على الآخر، أما وسائلها فكانت الخلافات الدينية والمذهبية والعرقية. ومن خلال استعراض التاريخ ومذكرات قادة من جميع أنحاء العالم، نجد أنّ القاسم المشترك في التخطيط لمعظم الحروب كان المحافل السرية لحكومات الظلّ المعروفة بالماسونية والتي يسيطر عليها اليهود منذ بداية القرن الثامن عشر، واستثمرت تلك الحروب كلّها لمصلحتهم باعتبارهم الرابح الأكبر، رغم أنهم أصغر أقلية في العالم عرقياً ودينياً وحضارياً فهم ليسوا من ِعرق معروف أو محدود، وأتباع ديانتهم شذرات من مختلف الأعراق، ولم يشكلوا حضارة بحدّ ذاتهم على مرّ التاريخ بل كانوا على هامش الحضارات بدءاً بالبابلية والفرعونية إلى حضارات الشرق الأخرى، وصولاً إلى الحضارة العربية في الأندلس، في حين كانت تغرق أوروبا في ظلمات التخلف وسيطرة الدولة الدينية.

لم تنكر الصهيو ماسونية العالمية دورها الرئيسي في إسقاط القيصرية الأرثوذكسية في روسيا، وأنها مَن أوحت النظرية الماركسية، وأفادت من نتائج الحرب العالمية الأولى التي كان سببها الثورة البلشفية أو السبب الأساس في قيامها، عندما سيطرت على السياسة الخارجية البريطانية مالياً واقتصادياً وإعلامياً. كذلك حصل على هامش الحرب العالمية الثانية فكسبت تعاطفاً دولياً بعدما أُطلقت عليها محارق النازية، وكانت لغلاة الصهاينة اليد الطولى فيها تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية على أشلاء الشعب الفلسطيني.

إذا كانت الحرب العالمية الأولى قامت لاسترداد القيصرية، فإنّ الحرب العالمية الثانية قامت لمكافحة النازية ومحورها، وفي كلتا الحالتين جنى اليهود الصهاينة ومن معهم ثمار الحربين، وكان مخططاً لذلك بدقة منذ عام 1890. بيد أنّ الخطط لم تتوقف بعد ذلك واستمرّ تطوّرها طبقاً للظروف السائدة التي أمكن توجيه حوادثها ضمن معيار المصالح ذاتها، وانطبق ذلك على كثير من الحروب المحلية في المنطقة السورية الشرق الأدنى والجوار العربي عامة.

حروب التوسع الصهيونية لم تتوقف، واعتمدت على دعم غربي واسع وتواطؤ عربي كبير، ومن نتائجها نكسات وهزائم لحقت بدول المنطقة ومعها مصر، إلى أن تحقق مشروع العلاقات المكشوفة مع الصهيونية لإنهاء القضية الفلسطسنية وإعلان الدولة اليهودية بعد تحييد مصر، كبرى دول المواجهة، ولم يبقَ على الساحة أمام تحقيق المشروع إلاّ سورية، وهي الدولة الأساس الواقفة في وجه تنفيذه النهائي. ولأنّ الوسائل المتعدّدة التي انتهجها النظام العالمي الصهيو ماسوني لم تنجح في إخضاع الدولة السورية والحدّ من ثقافة المقاومة وتطوّرها في وجه الكيان الصهيوني، كان لا بدّ من تطوير أسس الحرب ومناهجها ضدّ سورية ومن يحالفها وضدّ المقاومة وما تمثله من عقبة على الطريق، وهكذا بدأ التحريض الديني المذهبي لنقل الحرب إلى الداخل وبأيد داخلية مدعومة من الخارج ومموّلة عربياً، واستغلّت عوامل داخلية لا تخلو منها دولة في العالم. الفرق الوحيد أنّ الإثارة الدينية المذهبية تبلغ ذروتها في المنطقة لأسباب متعدّدة أهمّها وقف العمل بالعقل والانسياق وراء العاطفة والغريزة، وهذا أمر مدروس. وعلى هذا الأساس أُطلقت الشرارة الأولى قبل سنوات مرتكزة على جذور زرعت أو نمّيت بعيد الاحتلال الصهيو ماسوني للعراق، وبأيد غربية وعربية. وما كان للخلاف المذهبي هذا الأثر في الأوساط العراقية بسبب الاختلاط الواسع وتجاوز هذا الأمر ضمن العشائر والعائلات، غير أن الخبث الاستخباري الموسادي والغربي أدّى دوره في تأجيج الفتنة وتحضير تعبئة نفسية في الساحات المجاورة الشام ولبنان والأردن وفلسطين ويعلم الجميع مجريات الأمور في هذه الساحات جميعها، ولا حاجة إلى تعداد وتكرار ما كان يحصل.

المشروع الذي استهدف وجود الدولة السورية أساساً لم يكتب له النجاح لسببين، الأول صمود الدولة السورية مدعومة من أغلبية شعبية ساحقة معتمدة على اقتصاد غير مدين ومخزون من العملة الصعبة، والثاني موقف دولي حليف ومساند وداعم لم يسمح من منطلق مصالحه أيضاً بهذا السقوط. هذا الفشل رتب على القوى المعادية الانتقال إلى خطة احتياطية هي مشروع التقسيم الجاهز لمكوّنات شعب المنطقة، وهو المشروع الذي يخدم إقامة الدولة على أساس ديني على الأرض الفلسطينية، إضافة إلى عملية التوطين التي تعتبر الجزء الأهم في تصفية القضية الفلسطينية. ومن هنا كان الموقف الصهيوني المعترض على المصالحة الفلسطينية، وتشجيع الجهات التي تأتمر قياداتها عبر الغرب بمواصلة المشاركة في الحرب على الشام. وعلى سبيل المثال مشاركة حماس في الحرب على القوى الفلسطينية ضمن المخيّمات السورية والتزامها مواقف معلنة ضدّ «النظام السوري» رغم عدم تخلّيه عن موقفه الوطني في دعم الحق الفلسطيني واستمرار إمداد المقاومة بالسلاح النوعي، وتصليب الموقف الشعبي الفلسطيني عبر القوافل التي لم تنقطع ولم تتوقف، وأيضاً محاولة جمع شتات التنظيمات الداخلية في الشام على مسمّياتها، وهذا فشل بالمطلق، إذ أنها بسبب الخلافات الجذرية بينها ليست قابلة أو مهيّأة للتوحّد تحت قيادة واحدة، وذاك ما ظهر جلياً عبر الصراعات الدامية التي تخوضها لأسبابها الذاتية لا الوطنية، والأساس في هذا التنافر هو العامل البشري الخارجي وتعدّد الارتباطات واختلاف المشاريع. وهكذا يطفو على السطح فصيل «داعش» الذي أثار المزيد من إشارات الاستفهام رغم وضوح أهدافه المعلنة التي يؤمن بها ربما وهي تتناقض جذرياً مع المشروع الغربي لكنها تخدمه على أوسع نطاق إذ تؤدي الغرض المطلوب من إقامة دولة أو أكثر على قواعد دينية مذهبية، وبالتالي تبرّر إعلان الدولة اليهودية النقية التي لا يمكن أن تقوم مع وجود أغلبية شعبية رافضة في الجوار، أو دول تمانع المشروع وتعارضه وترفض تصفية القضية.

من غير المعقول أنّ تنظيماً من طراز «داعش» يمكنه السيطرة والانتشار بهذه السرعة، من دون عتاد متطور ومعلومات استخبارية دقيقة، وتعاون خلايا مزروعة في المناطق التي دخلها وقد يسّرت له مثل هذا الدخول. ومن غير المستبعد أنّ الاستخبارات المركزية الأميركية بالتعاون مع الموساد الصهيوني هي التي أمدّت «داعش» بالسلاح النوعي المتطوّر ووسائل الاتصال غير القابلة للكشف، والمعلومات الدقيقة الاستخبارية التي تسبق دخول أيّ منطقة، خاصة على مساحة تعادل نصف مساحة الدولة العراقية وامتداد هذه المنطقة في بادية الشام ومن ضمنها محافظتان كبيرتان دير الزور والرقة ، ولكن لماذا؟

ليس من المصلحة الأميركية قيام دولة معادية في المنطقة للمصالح الأميركية، أما في حالة تقاطع هذه المصالح وظهور أنّ النتائج النهائية تخدم الهدف الاستراتيجي المنشود، فإنّ الولايات المتحدة تعلن عن معارضتها لـ»داعش» وتعلن الحرب عليها على الملأ وتستمرّ اللعبة مسرحياً في عملية إطالة عمرها، فهي تستنزف طاقات دولتين كبيرتين في المنطقة سورية والعراق وتشتّت جهود جيشين على ساحة المنطقة في مواجهة الكيان العدو، وهكذا تكون دولة الخلافة «الداعشية» أداة استنزاف فاعلة لا بدّ من أن تؤدي إلى إضعاف القدرة العسكرية للجيشين العراقي الذي حُلّ أساساً باليد الأميركية وترتيبه من جديد على قواعد تخدم التقسيم والسوري الذي صمد وأثبت تفوّقاً لا مثيل له عبر تاريخ الحروب الداخلية المدعومة خارجياً رغم جميع الطفيليات التي نمت على جوانبه، لكنه حافظ على جوهر عقيدته القتالية القومية.

تحت ستارة الفوضى التي تعمّ المنطقة وظلال المعارك دخاناً وغباراً، تتحرك الآلة الصهيونية لقتل المزيد من الفلسطينيين وتهجير آخرين، في حين تنام الأنظمة العربية على حرير الديمقراطية الأميركية، نوماً عميقاً أقرب إلى نومة أهل الكهف، وقد وضعوا في آذانهم سدادات محكمة – غربية الصنع، أو أنّ آذانهم أصابها وقر أصيل فلا تسمع صرخات أطفال غزة ولا نساءها وشيوخها، وتتلهّى فضائياتهم وإعلامهم بالمونديال ومسيرات الأعلام الملوّنة الغريبة، وإن ذكر بعض هذا الإعلام الخبر فعلى النحو الآتي: «الحرب على إسرائيل»، كأنّ الفلسطيني هو المعتدي المجرم وليس الضحية التي تتلقى أحدث القذائف والقنابل والصواريخ وتحلّق في أجوائه أحدث أنواع الطائرات الأميركية المزوّدة أحدث التقنيات في العصر الحديث للقضاء عليه، وهو الذي يملك البندقية وأعداداً من الصواريخ البدائية، لكن الأهمّ أنه يملك الإرادة على الصمود… والانتصار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى