في «لا شيء في أوانه»… طلقة واحدة تكفي!

طلال مرتضى

لعلّه وصل إلى منتهى الحكاية، فمن يتغنّى اليوم بقصص القناعة، عليه أن يعيد وبتمعنٍ بأنها لم تعد كنزاً لا يفنى، وأن مدلولها المادي في المُراد هو إغفال عين الحقيقة، أو مواربتها من دون أي انحياز أو محاباة لواقع سليط.

«لا شيء في أوانه» ليست عتبة دلالية لمعنون عابر في خطوط الحبر، يمرّ مرور السائرين، الذين صاموا صمتاً وببطون خاوية إلا من خيبتها، إيماناً من مبدأ المقولة اللعينة، «ليس بالخبز وحده نحيا»… بعيداً عن هالة العنوان أعلاه، ألا يأخذك السؤال ومن خارج دائرة القراءة، لعبة الخنوع لفكرة الكاتب، بأن صوتاً ما بدأ ينضج وهو في طور انفجاره؟

محمد عيسى الشاعر السوري وعبر منجزه اليتيم الكلمات، رمى عصا وصاياه وصمته القديم ببضع كلمات في وجه كهنة المعبد العالي لتستحيل تلك العصا إلى حيّة تسعى. لا شكّ في أن هناك من تجاسر وبتر لها ذيلها، ليبقى السؤال التالي، هل انتهت الحكاية هنا أم أن نزف الوجع هو الآخر تفتّحت مداركه نحو فضاء صرخة الاستهجان والاستعصاء؟ استهلالاً لكل ما تقدّم، نتلمّس بأن صبر عيسى قد نفد، بعد أن توقف أمام مرايا ذاته ليسأل، أي وجع يأتي بعد هذا الوجع، أي خسارة يمكن للمرء أن يمنى بها بعد خسارة ما كان يسميه وطناً، قبل أن يستباح من داخله أولاً وخارجه تالياً، والذي يرى في كلمة استباحة ظلماً له ولها، فالوطن ذبح بيد أولاده باسم الله الحق من الوريد إلى الوريد ليس من باب الفتنة، بل لاستكمال لعبة الموت غدراً بعينها.

«قابيل..

أيّها القاتل بالحقّ

ما زلنا نُقتلُ انتقاماً لهابيل».

أمام هذا الواقع، وبعيداً عن كل التصاوير والإشارات الدالة بأكوادها ومضاميرها ما كان على محمد عيسى أن يستكمل الكتابة لتحقيق شرط قيامة ديوان في العرف الكتابي، بالمطلق.

كان عليه لملمة كل ما تيسّر من أوراق بيضاء وطيها بين ضفتَيْ الغلاف الحافظ من دون العودة إليه لفهرسته، من باب السؤال، من أعطى لوكلاء الله المنزه بالفكرة حقّ حجب الضوء، الأوكسيجين، الماء عن مريديه في أرضه؟

ليست مهمة الشاعر تشريب فكرته لمتلقيه، هو لم يكن هكذا في سالف الحكاية. الشاعر وليد لحظته، يومه، ومقولته، ومن باب البيان ألا يحق له ما لا يحقّ لغيره من الجوازات؟ لهذا كان مطلبي ومأربي ومأخذي على محمد عيسى الشاعر، وقت طلبت منه أن يلقي بكل ثرثراته خارج حدود النصّ المفتوح، ليخلد مطمئناً بأنه لم يغفل فكرة الحرب اللعينة، ولم يكتب من باب أن الكتابة فرض كفاية أو فرض عين في منجز الحرب هذه، كان عليه أن يترك لقارئه تسعة وتسعين صفحة بيضاء بعد إهدائه المكين إلى:

«الناجيان

أبو لهب، وأبو جهل…».

كبساط أوليّ ناصع يكسر به خشم الحرب ويستمليها كي تذوب في هذا البياض، بما أنه أثبت بالكلمة الطلقة والتي تدلي إليه بأصبع البيان، بأنه شاعر حذق، استطاع رسم الحرب كما ينبغي أن ترسم بمقولة الحياة:

«أزهار الربيع

كجنود بلادي

سريعة السقوط».

منطلقاً من فرضية رؤيته للحقيقة بعد انقلاب موازين المعادلة وبوجه الخصوص في سوريته:

«في السلم: الأبناء يدفنون الآباء

في الحرب: الآباء يدفنون الأبناء».

اكتمال الفكرة يوجز بتبيان معطاها الواقعي، فالإسهاب يبدّدها، محمد عيسى حقّق لها شروطها بالبرهان عندما قال:

«العربُ

همُ أكبرُ دليلٍ

على وجود الجاذبية».

بعيداً عما أصدرته من حكم على المنجز، والمكتظّ بالمقولات والتناص والانزياح، ولكنني رأيت من زاويتي الضيّقة، كمطلب، ما كان على الشاعر تذخير ديوانه بالكلمات المتفجّرة كلها، فطلقة واحدة بعد مقولتين استندت إليهما أعلاها قادرة على وضع نقطة النهاية.

كاتب سوري/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى