أخيرة

أوكار القلوب المقفرة 
ليو تولستوي «وقل للذين يحاولون تدميرنا
 لن يُهزَمَ جمالُ أرواحنا»

 آمنة بدر الدين الحلبي

خلتِ الشوارعُ من أناسها، وهدأتِ الأزقة من عويلها، ولم يبقَ إلاّ القطط تتبخترُ وحيدةً تحت غروبِ الشمس وشروقها، تبحث عن لقمةِ عيشها، والكلابُ تنبح تحت نور القمر علّها تجد مَن يرمي لها عظمة تسدّ بها رمق جوعها، في ظلّ حلولِ الضيفِ القاتل كورونا، الذي أغرقَ العالم عويلاً وموتاً، وفردَ مخالبَ القهرِ على الإنسانية جمعاء، حين أمرها بالبقاء محبوسة خلف جدران المنازل، وجعلَ النوافذ مثل فتحاتِ السجون، تمتدّ الرؤوس من خلال قضبانها الحديدية، أو على شرفات المنازل، يؤدّون أناسها رقصاتِ الموت لعلّ وعسى يقضون وقتاً ممتعاً، قبل أن يلتهمهم كورونا، لأنه لم يكتفِ بتهديدِ أرواحهم، بل هدّدهم بقوتِ يومهم.

إنها الرأسمالية المتوحشة التي مارستْ كلّ أنواع الحروب القذرة لتسيطرَ على ثرواتِ العالم، ولم تنجح، فلجأتْ إلى عدو مجهولٍ ومخفيّ، صنعته في مختبراتها وجعلته يزور كلّ بلاد العالم، ويفتك في كلّ مدينة، ويتربّع في كلّ قرية، ويمدُّ أذرعه في كلّ بيت، حتى يتكوّم في الصدور، ويمنع عنها الهواء، لتحقق مبتغاها في صنع القرن الذهبي.

الرأسمالية المتوحشة التي زرعت لنا كلّ التقنيات العصرية في الفضاء الافتراضي، لم تعرف ولو لحظة واحدة أن تزرع الجمال في نفوس الإنسانية، لكنها لم تستطع أن تهزمه من الأرواح كما قال لنا يوماً الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي «وقل للذين يحاولون تدميرنا، لن يُهزم جمال أرواحنا».

الرأسمالية المتوحشة أتقنت فنون الذكاء الاصطناعي، لكنها لم تتقن لغة التعامل مع البشرية، متمنية أن يقتلها اليأس والحيرة لكن الله عز وجلّ نهانا عن اليأس حين قال الله في محكم كتابه «وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ «87» سورة يوسف.

الرأسمالية المتوحشة صنعت الموت الزؤام في أوكار القلوب المقفرة من الحب والمحبة والإنسانية، لأنها لا تعرف ماهية الحب يوماً، ولا تجيد العزف عليه، لأنها قلوب خالية الوفاض وما يهمّها إلا الانقضاض على ثروات العالم وخيراته، بالموت الزوؤام، قهراً وتعسّفاً دون أن يرمش لها جفن.

الرأسمالية المتوحشة استقبلت الضيف القاتل ووزّعت ذرات عطوره على العالم لتقضي عليه، وبدأت بكبار السن أصحاب المناعات الضعيفة، وبدلاً من الوقوف إلى جانبهم تركتهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة تحت وطأة عطرٍ لعين تكوّم على صدورهم، ونفث ذراته في رئاتهم وتربّع فيها، حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة.

هؤلاء أمضوا كلّ شبابهم يدفعون ضرائب لحماية شيخوختهم، وحين بلغوا من العمر عتياً، رمتهم الرأسمالية المتوحشة إلى حتفهم في المقابر، تحت عناوين عريضة، لا مكان للاستشفاء في المستشفيات إلا لمعالجة الشباب فقط، فهم معول الحياة القادمة، وهم بناة المستقبل!

أين علب حقوق الإنسان التي مدّت أذرعها لتحمي هؤلاء من ارتطام الموج عند الشواطئ؟ أين علب حقوق الإنسان التي علا صوتها مراراً وتكراراً في عصبة القطط المتحدة لتنقذنا من عطرٍ رشّه أصحاب الخوذ الحمراء والزرقاء؟ أين علب حقوق الإنسان من ترك كبار السن يموتون خنقاً وتحت القمع الإجباريّ دون رأفة؟

أين علب حقوق الإنسان حين جاءت سالومي العصر، مسرعة على أزيز الطائرات الجميلة، حاملة على شفتيها ابتسامة عهر ببصمة سورياليّة، وراسمة على عينيها كحلا دافنشياَ، تتساقط منه ألوان ملتهبة بالحبات العنقودية، لتتناثر على وجوه الأطفال والنساء، مترنحة في مشيتها بين الأرض والسماء، علها تحظى بالعاديات لتبيد قوّتها عن بكرة أبيها، التي لقّنت الغطرسة الرأسمالية دروساً في فنون القتال، بل أرادت حلاً شاملاً للموريات لتجردها من حوافرها كي تحفظ سلامة ابنتها المدللة من أبناء الأفاعي التي تعيث وعاثت فساداً في الأرض، وكأنّ الموريات بِرَهْنِ إشارتها العطرية المتغطرسة، والتي أحرقت البشر والشجر والحجر، لتبني شرق أوسطٍ جديداً على أنقاض وطن كان مخاضه عسيراً فأنجب طفلاً مشوهاً.

هل قانون العالم تغيّر؟ أم غيّرته الرأسمالية المتوحشة التي خططت له منذ آلاف السنين ليصبح مثل قانون الغاب، والبقاء فيه للأقوى؟؟ بدءاً من قتل وحرق أصحاب الأرض الأصليين الذين تشبثوا بعاداتهم وتقاليدهم إلى الآن وما زالوا يدافعون عنها كشعوبٍ حمر!

أين علب حقوق الإنسان التي جعلت الرأسمالية تتمطى بصلبها على العالم وتقيم عليه الحدّ بالحرمان من الدواء والغذاء، وتبرمج لخطط جهنمية كي تستولي على ثرواته، وتجعل البعض يموت برداً تحت سِقْط الصقيع، وحراً تحت نار الصيف اللاهبة، وكورونا يعيث فساداً في الرئتين؟

أين علب حقوق الإنسان وكورونا يفتك بأجمل العواصم الأوروبية حضارة وثقافة وفناً وإبداعاً، والعالم في صمت مقيت يمارس لغة الغياب عن الواقع، فانشلت حركة الناس، وحلّ الفراغ الكئيب، وما بقي إلا صوت الرياح تنذر بموت محدق في تلك العاصمة بل في العالم أجمع بسبب الغطرسة الرأسمالية المتوحشة التي عاثت فساداً في العالم وأرخت بظلال عطرها على الكون؟

هل العالم ما بعد كورونا سيكون مثل ما قبله، ويطأطئ الرؤوس للرأسمالية المتوحشة لتدفنه في أوكار القلوب المقفرة من الحب والمحبة والإنسانية، والتي تعجُّ بالشياطين الفيروسيّة القاتلة؟ أم سيتغيّر ويعرف من هو الصديق ومن هو العدو؟ ليقدّم الخير لأصدقائه ليزيدوه محبة، ويعمل الخير لأعدائه ليصبحوا أصدقاءه! كما علمنا ليو تولستوي الأديب الروسي العظيم. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى