مقالات وآراء

ديستوبيا المواطنة… أين أصبحنا؟

‭}‬ جابر جابر
من أنت خارج المكان؟ من أنت خارج الأرض؟ وما هو مسقط الرأس؟ بل ما هي كليّة المكان، الحالة، والأرض؟
يقولون مسقط رأسك، وأقول المكان الذي يُسقِطُ فيك خميرٌ، تنبت فيه، وينبت فيك، وعلى قدر خصبِكَ تغني وتغتني.
ما الغنى خيرات وحسب، إنه ثمار الشجر والحجر والبشر.
ثمار التفاعل بين كلّ المكونات، فعلى قدر السقي تأتي المواسم.
ولعلّ تربة المجتمعات التي تحتاج للأرض أولاً، هي المأكل، بشقيه المادي ليسدّ جوع البطون، والمعنوي والنفسي الذي ما هو إلا ثقافة وسلوك يسدان جوع العقول والنفوس.
في المدينة الفاضلة شرائع، قوانين، ترتقي بالقيم الإنسانية إلى مصاف الحق، لتنتج مجتمعاً مترابطاً، متكافلاً، متصالحاً مع نفسه. مجتمعاً يرتقي فيه الفرد إلى رتبة مواطن، فيسكن إلى الأرض بثمارها الكلية، وتسكن الأرض إليه لتزهو وتتفتح وتتفجر ينابيع خير.
أين نحن اليوم، أين اليوتوبيا منا؟
نحن في قعر الإناء، في تفسّخات الزوايا، ننهش المتبقي من لحاء العقول، لنوقده في سعير نار المصلحيات الفردية والحقد الفردي…
ترى المظلومين في الأرض منقلبون على ذواتهم، يعيشون الظلم والمظلومية التي هي منهم، والسبب، غياب الشرع. نعم غياب الشرع الأعلى الذي هو العقل.
يعيشون على تعدّد الشرائع والفتاوى والمراجع والمقاصد، في تفسّخ شامل يجعلهم رعاع طوائف، ورعاع مذاهب منها الدينية ومنها الإقطاعية والطبقية والحزبية والتحريضية ذات الأصول الخارجية والداخلية.
يعيشون في وطن، ليسوا فيه ولا حتى بالإسم مواطنين.
لا حقوق، ولا واجبات، لا قانون، لا عدل، لا انتماء، لا اتحاد، لا ثقافة، لا رؤية، لا بصر ولا بصيرة، بل لا أخلاق.
فالأخلاق في أصولها، لا تنحصر فقط في الروادع الطوائفية التي ترتدي الوعظ الديني وتنهي عن المحرمات والقتل والسلب والسرقة والتعدي… وإنما تتعداها لما بعد الوعظ لتكون سلوكاً إرادياً لا يحركه خوف بل يكون مفهوماً واضحاً.
أين المنهيون بفعل طوائفهم عن كلّ تلك الموبقات، أين هم إن ذكرنا… النفاق، والسرقة، والكذب، والتعدي، والقتل…
إنهم في صميم الإثم الذي يدّعون نكرانه، فكم من حياة وحلم ورزق ومستقبل قد زهق ويزهق يومياً، ليجردهم هم بأنفسهم من أن تكون لهم حقوق، وواجبات ليكونوا مواطنين.
إنّ الانحدار الذي تتعرّض له المجتمعات، يأتي نتيحة الفساد الذي ينخرها، والحقيقة أنّ الفساد لا يمكن ان يغزو جسماً إلا إذا تضاءلت مناعة الأخلاق، فكيف بها إذا زهقت بأكملها.
يمكنك تصنيفنا اليوم، أننا في ديستوبيا المواطنة، حيث شريعة الغاب هي الحاكم.
وكانما تسرّب طغيانٌ إلى مكتبات عقولنا، ومكتبات فكرنا المشرّع، ليعبث بمحتوياته، ليدّعيه، ليردّد اقتباساً من حيثياته، بعيداً عن التطبيق، بل بتطبيق مناقض تماماً لحق وخير وجمال المضمون.
للمواطنة دين، وهو حق وخير وجمال.
حقّ في تغليب الحقّ على الباطل مهما تعاظم، ومن أية جهة أتى، فلا يعلو فوق الحق أياً كان ومهما يكن.
خير، وهو الدال على نفسه، لما فيه من قيم ومكارم وعطايا، لما فيه من عدل وعدالة وإنصاف…
جمال وهو الروعة المتأتية من كلّ ما هو حسن الجوف والمحيا، حسن المضمون والظاهر، ما يبعث في النفس سلام الشكر والراحة والطمأنينة…

أما في ديستوبيا المواطنة، وهي واقعنا الحالي، فهي ما ينتزع منا الانتماء للأرض، للحق، للخير والجمال ويأخذنا في صراع أخرس، لا ينطق فيه بحق الكلّ، صراع أعمى لا يؤخذ فيه بجمالية الاكتمال، بل صراع أجوف وأكتع وأخبل لا يؤخذ فيه بالحق.
إرفع رأسك، أنصب قامتك، وانظر، إنّ القمم في عليائها، تنتظر أن تتوثبها العقول لتتراءى من على مشارفها قمم أخرى، أعلى وأعلى، تلك فقط هي طريق اليوتوبيا، أما القعر، والذي يقبع على قعر أسحق فهو ما نحن فيه اليوم ولا خلاص منه إلا بالأخلاق، بقيم الحق والعدل، لا خلاص منه إلا بالتواضع، فلقد علمنا شيئاً، وغيّبنا عنا أشياء…
لا شيء غائب، بل غيّبناه…
انّ سعاده فكراً وعقيدة هو الخلاص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى