أولى

«مؤتمر النقب» لن يغيّر الحقائق ولن يطمس اغتصاب فلسطين

 العميد د. أمين محمد حطيط*

أن تعقد قمم ومؤتمرات عربية ـ إسرائيلية وتستضيفها «إسرائيل» او دولة عربية تدعو «إسرائيل» إليها أمرٌ ليس بالبسيط ولا يمكن مروره دون التوقف عنده وإلقاء الضوء على أبعاده ومفاعيله، فهو شأن يتخطى وبكلّ تأكيد حالات الصلح او اتفاقيات السلام او حتى ما يُعرف زوراً باسم التطبيع ليصل الى مشهد آخر يجعل «إسرائيل» تزهو بنجاح فكرتها أو طرحها الذي عبّر عنه شمعون بيريز بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، حيث شرح هدف «إسرائيل» المستقبلي في «الشرق الأوسط الجديد»، وخاطب العرب بقوله «بمالكم وعقلنا نحكم العالم» و»أنتم تدفعون المال وتقدّمون اليد العاملة ونحن نقود ونخطّط ونسود العالم».

واليوم عندما نلقي النظرة على الاجتماع السداسي في النقب الذي انعقد بقيادة أميركا التي مثلها وزير الخارجية بلينكن وضمّ كلّاً من مصر والإمارات والبحرين والمغرب مع «إسرائيل» التي استضافت الاجتماع تحت عنوان «السعي لهيكلية أمنية لمواجهة إيران»، خاصة بعد احتمال إحياء الاتفاق النوويّ بينها وبين أميركا، الإحياء الذي سيُمكّن إيران من التفلّت من العقوبات التي قيّدتها وحدّت من نموها وحرمتها من استعمال بعض أموالها وثرواتها. واليوم ومع الإحياء المنتظر للاتفاق سيسقط كلّ ذلك وتنطلق إيران كما يتصوّرون الى بسط نفوذها وفرض سياستها في الإقليم مستندة الى أكثر من ١٣٠ مليار دولار تخدم استراتيجيتها كما يهوّلون.

لقد رأى البعض في «مؤتمر النقب» أنه محاولة لتأسيس حلف دفاعي عسكري لمواجهة إيران يشبه الناتو وأسماه «الناتو العربي»، ومع انّ في الأمر وجهة نظر وفيها شيء من الصحة، ولكنه ليست كلّ الحقيقة، حيث أننا نرى انّ المؤتمر السداسي لا يقتصر على ذلك ولا ينحصر في مسألة الخطر العسكري الإيراني الذي هو وهمٌ غير قائم إلا في صدور البسطاء، بل يرمي الى أبعد من ذلك خاصة أنّ إيران وبشكل موضوعي لا تشكل خطراً عسكرياً على أيّ من الدول المشاركة، وهو نفي او انتفاء لا يمكن دحضه مهما جهد الأطراف في نشر أخباره والتنظير لـ «احتمال عدوان إيراني عسكري عليها»، فإيران ومنذ نجاح ثورتها الإسلامية واعتمادها الفقه الإسلامي وفقاً لمذهب الاثني عشرية اعتمدت في مسألة استعمال القوة العسكرية مبدأ الدفاع وتمسكت بالاستراتيجية الدفاعية التي تتيح لها الدفاع عن النفس وعدم اللجوء الى القوة والإمكانات العسكرية المتاحة الا لردّ عدوان يستهدفها ولا تتيح لها (الاستراتيجية الدفاعية) المبادرة الى القتال وعنوان سلوكها قول الإمام علي «لا تبادر بقتال» وتأكيد الإمام الحسين في كربلاء «أكره أن أبدأهم القتال».

بيد أنّ الجمع السداسي في النقب يعلم او عليه ان يعلم هذه الحقيقة معطوفة على حقيقة أخرى مستمدة أيضاً من الفقه الإسلامي الذي تعتنقه إيران بما يتعلق بالسلاح النووي الذي ترفض إيران امتلاكه او السعي الى امتلاكه واستعماله، لأنه سلاح قتل ودمار شامل لا يجيزه الشرع الإسلامي. ومع ذلك فانّ هذا الجمع يتنادى تحت عنوان العداء لإيران والسعي لمواجهتها ومنعها من «السيطرة او امتلاك نفوذ او توسيع فضاء استراتيجي حيوي في المنطقة». فالمسألة إذن ليست لمواجهة خطر عسكري تشكله إيران على المجتمعين وهو ظنّ غير موضوعي، بل خطر استراتيجي تشكله إيران بسياستها وتحالفاتها على المشروع الصهيو ـ أميركي الاحتلالي الاستعماري الذي يصرّ أصحابه على استباحة المنطقة عامة واستعباد شعوبها ونهب ثرواتها دونما اكتراث لحقوق الإنسان فيها او لحكم القانون او الأخلاق،

وبالمناسبة نسأل أيّ خطر تشكله إيران عسكرياً على الدول العربية التي احتشدت في حضن الكيان الصهيونيّ برئاسة أميركا؟ والجواب قطعاً سلبي والخطر الإيراني غير قائم إلا في رؤوس تفبرك الأكاذيب وتتعامل مع الأوهام كأنها حقائق، لكن إيران تشكل بالفعل خطراً على المشروع الذي تعمل أميركا و»إسرائيل» من أجله والذي تسبّب بحرمان الفلسطينيين من أرضهم ومنعهم من امتلاك وطن يقيمون عليه دولة لهم، المشروع الذي أدخل المنطقة في حالة عدم استقرار دائم تكون فيها إما في حرب ونار تدمّر او تستعدّ لنار تستعر وتهجّر، فإيران ترفع في وجه المشروع الاستعماري الاحتلالي الذي يتخذ من معظم العرب أداة له، ترفع شعار منطقة لأهلها لا تكون شرقية ولا غربية، بل سيدة مستقلة حرة تتمتع بثرواتها دون منازع.

وعلى ضوء ما تقدّم نرى أنّ المؤتمر السداسي الذي غابت عنه الأردن، والذي يطمح المشاركون فيه أن يتوسّع ليشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى لا تقتصر على تركيا والسعودية كما يتردّد، له من الأهداف ما يتخطى وهم إيران والخوف من قواتها المسلحة بعناوينها المتعدّدة، ويتجه الى تحقيق أغراض أخرى لا يجرؤ أصحابها على تسميتها بأسمائها منها:

ـ التنكر للقضية الفلسطينيّة بشكل نهائيّ وتجاوز كلّ ما يتصل بسعي الفلسطينيين لتحصيل حقوقهم في وطن ودولة وحقوق فردية خاصة.

ـ تأمين حاضنة إقليمية لطمأنة «إسرائيل» واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المنطقة والتعامل معها على هذا الأساس. وهذا هو التطبيع الفعلي الذي تحلم به والذي يتجاوز مسألة الصلح او السلام او فتح سفارات تبقى مكاتبها معزولة ميتة.

ـ إقامة منظومة إقليمية لحماية «إسرائيل» والحؤول دون الأخطار المتعدّدة التي تواجهها من قبل محور المقاومة عامة، والفلسطينيين خاصة.

ـ إقامة حلف مركب من طبيعة خاصة تتعدّى العنوان العسكري الدفاعي وانْ كان هذا الأمر معتمداً كذريعة للقاء، ليكون حلفاً استراتيجياً سياسياً واقتصادياً تستعمله أميركا و»إسرائيل» لمواجهة محور المقاومة الذي انتصر في العام ٢٠٠٠ ثم في العام ٢٠٠٦ ثم في الحرب الكونية التي استهدفت سورية، ويستعدّ الآن لاستثمار انتصاره خارج الميدان مدّخراً بمبلغ مالي ضخم ستحصل عليه إيران بعد إحياء الاتفاق النووي.

ـ قطع الطرق على أيّ كان ومنعه من إقامة علاقات مع دول المنطقة ذات القدرات النفطية والغازية، وجمع تلك الدول في منظومة تحالفية تقودها «إسرائيل» وأميركا.

وعليه يكون يوم انعقاد مؤتمر النقب يوماً «إسرائيلياً» بامتياز ويشكل بالنسبة لها «يوماً تاريخياً» بالفعل كما وصفه أحد المسؤولين فيها يوم حلمت به منذ نشأتها لا بل حتى قبل نجاحها في إقامة الكيان. فهل يكون هذا اليوم يوم ولادة «إسرائيل جديدة» في طبعة وطبيعة أخرى عنوانها انّ «إسرائيل حقيقة قائمة وجزء لا يتجزأ من المنطقة»، وانّ كلّ ما قامت به من أعمال عدوانية ضدّ فلسطين وشعوب المنطقة ما جعلها عدواً بكلّ تأكيد، كلّ ذلك سقط او طويت صفحته لتولد «إسرائيل جديدة» هي «إسرائيل الحليف والصديق للعرب» لا بل «ابنة العمّ والقريب الحميم لهم» وفقاً لاتفاقات ابراهام، فهل سيتحقق ذلك؟

إننا وبموضوعية نقول إن لقاء النقب هو مؤتمر الواهمين الخائفين العاجزين عن حماية مشروع بدأ يتهاوى أمام المشروع المضاد الذي هو مشروع سيادي حقيقي واستقلالي فعلي يقوده محور المقاومة الذي لن يتنازل عن فلسطين ولن يرى في «إسرائيل» الا عدواً مطلقاً، ولن يعتبر أميركا الا فاعلاً ومتدخلاً ساعياً للهيمنة والسرقة والاغتصاب. ومن جميل الاقتران أن تأتي عملية المقاومة الفلسطينية في الخضيرة قرب حيفا وتنفذ على الأرض التي اغتصبت في الـ ١٩٤٨ متزامنة مع انعقاد المؤتمر لتقول للمؤتمرين المتآمرين: «خططوا وقولوا ما شئتم والمقاومة تفعل ما تشاء فيكون ردّها في الميدان أبلغ من اقوالكم وأفعل، ولن يغيّر كثيراً في المشهد والردّ ادّعاء مشبوه ادّعته «داعش» أنها نفذت العملية، فللمقاومة أساليبها ورجالها الذين لا تعرفهم داعش صنيعة أميركا. وهي ليست منهم ولا هم منها. نعم الردّ على «الحلف الإقليمي الصهيوني» سيكون في الميدان أساساً ورفضاً من الأمة التي لا تمثلها أنظمة استسلمت للمشروع الصهيوـ أميركي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى