الوطن

هل يصلح النفط والغاز ما أفسده الدهر…؟

} منجد شريف*

خطوات معدودة تفصلنا ليصبح الترسيم البحري ناجزاً بين لبنان ودولة الإحتلال «الإسرائيلي»، وعليه سيتمكن لبنان من التنقيب عن الغاز والنفط، لكن الأهمّ من الترسيم هو فك الحصار المالي الاقتصادي، الذي تمثل بالفيتو على كلّ أشكال المساعدات في الفترات الأخيرة، ذلك الفيتو الذي انعكس سلباً على كلّ مفاصل الدولة اللبنانية وجعلها وأبناءها يقاسون أزمات متشعّبة، تبخرت خلالها كلّ مداخيلهم ومدّخراتهم، وصاروا يحملون رزماً مالية تشبه أوراق المونوبّولي في قيمتها المنهارة، وزاد منها جشع التجار والمحتكرين واللاهثين وراء الثروات في عز الأزمات.

ـ تمّ الترسيم بعدما خضنا غماره منذ اليوم الأول لعهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولم يكن كلّ ما طالنا في تلك المرحلة بعيداً عن الترسيم ومناخه المضطرب، فدخلنا في مسلسل من الضغوط بدءاً بالحرائق المفتعَلة، ثمّ إلصاق كلّ رواسب الماضي بهذا العهد، والسعي لتحميله إرث الثلاثين عاماً بكل ما خلفته من دين عام ناطح الـ ١٠٠ مليار دولار، وتلا ذلك سلسلة من الأحداث كان أبرزها إنهاء أحد المصارف، ليتبعه حركة احتجاجية بإسم «ثورة» في ١٧ تشرين الأول 2019 تجنّدت لها معظم الوسائل الإعلامية وجمعيات المجتمع المدني، كما ركب موجتها متسلقون من بعض الأحزاب السياسية لتصفية حساباتهم مع خصومهم في السلطة، فكانت تلك المسماة «ثورة» غطاءً لما هو أفظع وأشنع، بل كانت مدخلاً لأزمة اقتصادية عنوانها الدولار وسيفه المسلط، وتجسّدت بإقفال المصارف وتحويل العديد من الأموال الى الخارج في سابقة خطيرة للغاية أدّت الى ارتفاع الدولار بشكل جنوني حتى بلغ عتبة الـ ٤٠ ألف ليرة، مما انعكس غلاءً فاحشاً على كلّ الصعد، ومعه انعدمت القدرات المادية لغالبية الشعب اللبناني.

عاش اللبنانيون منذ ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ مأساةً قلَّ نظيرها، كانت انقلاباً حقيقياً على كلّ شيء وفي كلّ شيء، لكأنّ ١٧ تشرين كانت عنواناً لحقبة الحصار المالي المستفحل، ومعها رزحت الغالبية من الشعب اللبناني تحت خط الفقر، وتضرّرت كلّ مؤسسات الدولة، وصارت الأزمات المتتالية حديث الساعة بين اللبنانيين، بدءاً بالدواء، والقمح والغذاء وليس انتهاء بالوقود وصار ذلك الشغل الشاغل لجميع اللبنانيين.

يأتي الترسيم اليوم وفي لحظة حساسة من تاريخ الوطن، لحظة تكشفت فيها كلّ مخلفات الماضي من الفساد المستفحل الذي لم يترك وزارة أو مؤسسة أو إدارة إلا ونخرها وتفشى فيها، فمن الكهرباء الى الغذاء والدواء والطبابة والأمن الغذائي والصحي، مرّ الفساد وفعل فعلته، ووجدنا أنفسنا نصحو على واقع لم يترك لنا حتى النذر اليسير من أجل الصمود والاستمرار في بلد لا قدرة لنا على فراقه، لكن في واقعنا المُعاش صار التفكير بالرحيل عنه جدياً للغاية.

انتظر اللينانيون كثيراً لتبلور صورة مستقبلهم في بلادهم، والجميع يعلم أنّ ما تعرّضت له البلاد لم يكن أمراً عادياً، بل هي أزمة مفتعلة لأهداف معينة توفرت لها كلّ أسباب نجاحها وذلك بهمّة الفاسدين، الذين قضموا المال العام قَضمَ الإبل نبتة الربيع، غير أنّ اللبنانيين اليوم تسكنهم هواجس عديدة، أبرزها كيف سيكون التعاطي مع التنقيب والاستخراج، وهل ستنسحب تجارب الماضي على المستقبل ونعود لنستنسخ التجربة نفسها في الفساد ولكن بنسخة النفط والغاز هذه المرة؟!

فمهما تفاءلنا بالمستقبل وما يمكن أن توفره الثروة النفطية أو الغازية أو أيّ مستخرج آخر من حقول النفط، فإذا لم توضع الأطر القانونية والرقابية والفنية والآلية الاقتصادية والإدارية لحمايته من آفة الفساد، فإننا لن نستفيد منه بشيء، وعندها ينطبق المثل الشعبي: «كأنك يا أبو زيد ما غزيت».

ولا شك بأنّ العدو على أتمّ الجهوزية ليبدأ بالضخ بينما نحن ما زلنا في طور البحث والتنقيب، وهذا ما يجعلنا أمام تهديد آخر كان قد ألمح إليه أحد الخبراء الجيولوجيين من إمكانية العدو من سبر أغوار منطقتنا أفقياً لسلبنا ثروتنا من حيث لا ندري، وهذه الخشية ليست ببعيدة عن تاريخ عدونا في السلب والاستيلاء.

كانت مرحلة شاقة قطعها اللبناني وما زالت مستمّرة بعض الشيء أمام محطات الوقود والأفران والمستشفيات والمصارف، مرحلة اتسمت بظاهرة مهمة، انَّ اللبناني صبور وقوي ومبتكر للحلول البديلة حتى في عز أزماته، كما شكل الاغتراب اللبناني وما زال أداة مهمة للصمود من خلال التحويلات المالية التي رأبت الصدع الى حدّ كبير وجعلت العجلة الاقتصادية تستمر ولو ببطء.

إنّ ما يهم اللبناني اليوم، ان يكون الترسيم البحري مدخلاً لدولة عصرية يسودها القانون والانتظام العام في كلّ مؤسسات الدولة، وأن تكون هذه الفرصة مناسبة لشجب كلّ ممارسات الماضي المفسدة لكلّ الإدارات ومرافق الدولة، وأن نبني دولة عصرية نموذجية تستفيد من ثرواتها ومقدراتها الطبيعية، ومن أدمغة أبنائها، فهذه الفرصة اليوم إما تحملنا إلى بر الأمان، او ستلقي بنا في قاع البحر. حيث لا مجال لانتشالنا مرة أخرى، ولن نكون طموحين أكثر من اللازم، ولكن بقليل من الإدراك نستطيع أن نقدّم نموذجاً جديداً نتحاشى فيه كلّ ما واجهناه من كوارث على الصعيد العام، وها هي الفرصة سانحة أمامنا اليوم فلا نضيّعها كما ضيّعنا فرصة الإنماء والإعمار في مرحلة ما بعد الحرب وكلنا نعلم أنّ بلادنا أبوابها مشرّعة ومفتوحة لكلّ أشكال التدخلات، ولكن تلك التدخلات تنتهي بمجرد أن نكون موحدين حول هدف واحد وهو بناء الدولة وتطويرها بما يتلاءم وووح العصر، خاصة أنّ الله أنعم علينا بثروة النفط والغاز في الوقت الذي ترزح فيه كلّ أوروبا تحت وطأة النقص في مشتقاتها النفطية وهي على أبواب الشتاء، فلنقدّر النعمة ولا نرفسها مرة أخرى وعندها ينطبق فينا القول: «على نفسها جنت براقش». فهل يصلح النفط والغاز ما أفسده الدهر

*كاتب وباحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى