أولى

أحداث السودان وبصمات الكيان الصهيوني

‭}‬ د. هاني سليمان
يبعد السودان آلاف الأميال عن الكيان المؤقت. لكن الأحداث المؤسفة فيه تؤشر بوضوح الى دور إسرائيلي مشبوه خاصة بعد أن يتصل وزير خارجية اميركا بلينكن ويشير الى طرفي النزاع بوجوب الاستماع الى «نصائح» رئيس حكومة العدو.
ولكي نفهم حقيقة وعمق الدور الصهيوني في السودان منذ عقد من الزمن على الأقلّ، كان تسليط الضوء عبر هذه السطور.
احتجز الثائر العالمي كارلوس وأنيس النقاش ورفاقُهم وزراء النفط في منظمة «أوبيك» المجتمعين في النمسا، وأخذوهم رهائن، ولعب صديق كارلوس عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر الذي أصبح رئيسها في ما بعد، دوراً في المفاوضات لإطلاق الرهائن، وتنفيذ بعض شروط الخاطفين.
ضغطت أميركا على الأردن لتسليمها كارلوس الذي كان موجوداً فيه، فرفض ملكُها كي لا يُقال إنه ارتكب جريمة شرف. ثم ضغطت على سورية فرفض رئيسها للسبب ذاته.
وضغطت على السودان فنجحت.
أثناء تواجده في السودان، وبتنسيق مع بعض السلطات هناك اختطفته المخابرات الفرنسية ونقلته بطائرة خاصة الى باريس.
ما كان لباريس ان تنجح في الوصول الى كارلوس، لو لم تنجح في الوصول الى رأس الهرم في المرجعية السياسية آنذاك في السودان، لقاء صفقة ـ خدعة زُينت للسودان مكاسب هامة.
كانت الصفقة بمثابة مثلث متساوي الأضلاع تنطلق من النقطة الأعلى في المثلث كلخطوة أولى متمثلة بتسليم كارلوس.
أما الضلع الأول: فهو تعهُّد فرنسي بالعمل لدى الإدارة الأميركية، لرفع اسم السودان من لائحة «الإرهاب الدولي».
وأما الضلع الثاني: فهو تزويد السودان بخريطة لمواقع التمرّد في الجنوب، الذي كان يقوده آنذاك الجنرال «قرنق» عبر الأقمار الصناعية.
وأما الضلع الثالث: تزويد السودان بمحفزات اقتصادية كبرى، من أجل بنية تحتية متطورة.
بالرغم من ثرواته الطبيعية والمائية والزراعية الهائلة، فقد كان السودان منذ عقود، يعاني من مشاكل سياسية واقتصادية وتنموية عميقة، وبسبب موقعه الجيو ـ استراتيجي على البحر الأحمر، المتصل بالبحر المتوسط وبالمحيط الهندي أيضاً، عبر دولة جيبوتي، كانت العين الإسرائيلية عليه، مفتوحة ليلاً نهاراً.
وفي حين كانت عين فرنسا على كارلوس، كانت عين الكيان الصهيوني على الدور المتميّز الذي لعبه شعب السودان وقواه الحيّة، بدعم قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وخاصة تلك المتمثلة بحركة حماس في غزة، حيث استهدفت الطائرات الإسرائيلية مرات عديدة، بواخر محملة بالسلاح للمقاومة، كانت في البحر الأحمر في طريقها الى غزة.
التنسيق المخابراتي والعملاني بين فرنسا و»إسرائيل»، أوقع «الحمل» الرسمي العربي في حبائل الثعلب الأوروبي. فاذا بكارلوس، أسيراً ومقيّداً. انطلت الخديعة على القيادة السودانية، أما الذاكرة العربية مع الاستعمار الأوروبي ومكائده منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد دُفنت في بئر النسيان.
كارلوس في السجن في فرنسا يقضي عقوبة مؤبدة، والسودان ينتظر سراب الوعود الحارة التي سرعان ما تبخّرت لتتجمّع غيوماً باردة، فأمطاراً هاطلة في أروقة مفاوضات تُفضي الى استفتاء يقود الى تقسيم السودان، حاملة معها المصادقة على تقسيمه ونشوء دولة في جنوبه.
أول قرارات تلك «الدولة»، تلك العلاقة المميّزة مع الكيان الصهيوني، لدرجة أنّ هذا الكيان قد فاخر بأنه كان وراء فكرة التقسيم، وأنه كان صاحب اليد الطولى في إنشاء دولة جنوب السودان.
لم يُرفع اسم السودان من لائحة الدول «الراعية للإرهاب» ولم تُرفع العقوبات عنه، ولم يُعط للسودان شيء من الاحدثيات ضدّ التمرّد في الجنوب، بل أُعطيت دولة الجنوب، سلاحاً إسرائيلياً للجيش والشرطة، وحتى لقبائل الجنوب السودانية.
كتبت الروائية العراقية المميزة إنعام كج جي في روايتها «النبيذة»: هكذا هي لعبة الأمم وهناك دائماً خيّاطون جاهزون، يُمسكون الدبابيس بين أسنانهم ويرسمون بصابونة ناشفة خطوطاً على القماش ويأخذون المقصّات، ويفصّلون الخرائط حسب المقاس. الأكمام والياقة لك، والصدر والحواشي لي، السعودية لكم والعراق لنا، أبيض إلك… أسود إلي».
كتب «تشرشل» الى الرئيس «روزفلت» غداة الحرب العالمية الثانية: «أشكركم جزيل الشكر على تأكيداتكم الخاصة بعدم التطلّع الى حقولنا في إيران والعراق، ودعني أعاملكم بالمثل، فأعطيكم أوفى تأكيد، بأن ليس لدينا أيّ نية لإقحام أنفسنا في مصالحكم، في المملكة العربية السعودية».
ومن طبائع الأمور للأسف، أن يلجأ السجين الى السجان لفك أسره، أو أن تناجي الضحية جلادها لرفع العذاب عنه، هكذا فعلت القيادة السودانية، فتوجّهت الى الإدارة الأميركية، طالبة رفع الحصار وبعض المساعدات. وكان الجواب الأميركي واضحاً، إن طلب الغفران يقدّم الى «الديّان» الإسرائيلي، الذي بيده وحده مفاتيح السجن.
وهكذا، فقد فتح رئيس المجلس الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان ذراعيه للتطبيع مع الكيان الصهيوني، علّ هذا التطبيع يعطيه تذكرة سفر الى واشنطن، فيُفتح له الباب في البيت الأبيض.
لا ينفرد السودان العزيز عن غيره من بلدان العرب، من حيث طبيعة المعاناة المقيمة في أهله ومجتمعه، بل هي تشترك معه بنفس المواجع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. كلها آثار واحدة لعملية التفكيك والتفكك الجارية في الوطن العربي، بفعل الاستعمار الخارجي، والاستبداد الداخلي، والمشاريع الخاصة والحروب البينية.
بعد عشر سنوات من تسليم كارلوس الى فرنسا، استضافت «دار الندوة» في بيروت نائب الرئيس الأسبق السيد نافع نافع. وفي لقاء مفتوح حول ظروف السودان والتحديات التي تواجهه، بادرته بالقول: «إنّ السودان العزيز يعيش ظروفاً صعبة جراء الحصار والانفصال والانقسام، وليس من ثقافتي أو من شيمي كعربي ومسلم، أن أهاجم بلداً عربياً يمرّ بظروف صعبة. ولكن هل لي أن أسألك عن الثمن الذي قبضتموه، جراء تسليم كارلوس صديق العرب وفلسطين الى السلطات الفرنسية»؟
تنهّد ذلك الرجل، وقال بعد صمت مسموع: «كان ذلك خطأ، بل كان خطيئة».
تلك هي المراهنات التي تذهب بأمتنا الى التهلكة. حمى الله السودان العزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى