أولى

طوفان الأقصى… تقدير موقف أوّليّ

‭}‬ زياد حافظ*
إنّ إجراء تقدير موقف أوّلي لمجريات الأمور التي أطلقها “طوفان الأقصى” قد تكون مهمة شبه مستحيلة لتسارع الأحداث وبروز المتغيّرات التي لم تكن بالحسبان. ومن المتغيّرات التي لم تكن بالحسبان دور الحماقة وقلّة العقلانية في دوائر الغرب بشكل عام وخاصة داخل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة. فاللاعقلانية قد تمنع إجراء محاكاة للخيارات المتاحة أمام الأطراف المتصارعة لأنه لا يمكن تصوّر الخيارات غير المعقولة. بل يمكن القول إنّ المسألة أصبحت تدور حول التصوّرات غير المعقولة لمستقبل الصراع العربي الصهيوني من الزاوية الصهيونية التي تضرب كلّ مقاييس الأخلاق والواقعية وهذا ما لا نستطيع القيام به. وتصريح وزير الكيان الصهيوني الياهو حول استعمال القنبلة النووية في قطاع غزّة نموذج عن تلك اللاعقلانية. ولكن في مطلق الأحوال لا بدّ من مقاربة الخيارات والاحتمالات لما يمكن أن تحصل بسبب “طوفان الأقصى” ومن بعده. لكن قبل ذلك فهناك حقائق قد ظهرت لا يمكن إنكارها وتدخل في المقاربة الاستشرافية التي نحاول تبيانها.
الحقيقة الأولى هي أنّ عندما يندمج الأمان والعقل ومعهما الشجاعة تصبح النتائج هائلة. إيمان وشجاعة المجاهدين عزّزتهما عبقرية العقل المخطّط لعملية “طوفان الاقصى” بكلّ أبعادها العسكرية والسياسية والفكرية والثقافية والقيمية. فالتداعيات العسكرية هامة تستدعي أكثر من مقاربة، والتداعيات السياسية تنذر بتحوّلات في المشهد السياسي على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، والتداعيات الفكرية تؤكّد أنّ المشروع النهضوي العربي هو في الأساس مقاومة لكل ما أفرزه التراجع العربي والإسلامي بسبب التشتّت والتجزئة وبسبب الاستعمار الذي عزّزهما لأغراضه الخاصة. كما أنّ المنظومة الفكرية التي استند إليها الاستعمار والامبريالية وادواته الدولية والإقليمية والعربية قد تحطّمت أمام النموذج الإرشادي الذي فرضه تمازج الايمان والعقل والشجاعة. والجدير بالذكر أنّ ذلك النموذج أوجدته المقاومة الإسلامية في لبنان وانتقل إلى فلسطين المحتلة بعد إنجاز نصر 2000 ونصر تموز 2006. أما على الصعيد القيمي فتجذير روح التضحية للفرد في سبيل الجماعة ينقض القيمة التي يروّجها الغرب في قوّامة الفرد على الجماعة.
الحقيقة الثانية هي تكريس مسار انهيار الغرب بعد دخوله مرحلة الانحطاط الفكري والأخلاقي ورداءة النخب الحاكمة وخارج الحكم التي أنتجت سياسات عبثية على الصعيد الداخلي والخارجي. فسكوت النخب الحاكمة في أوروبا عن المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة والتي تحوّلت إلى جرائم حرب موصوفة تجعل تلك القيادات شريكة عبر سكوتها إن لم يكن تشجيعها لارتكاب محرقة جديدة في غزّة. أما بالنسبة للولايات المتحدة فأصبحت شريكة فاعلة وفعّالة في الجريمة التي ترتكب بحق الفلسطينيين في غزة وسائر المناطق المحتلّة. بالمقابل نشهد المظاهرات الضخمة التي عمّت وما زالت تعمّ العواصم والمدن الأوروبية والأميركية لنصرة الحق الفلسطيني رغم محاولات شيطنة المقاومة في غزة. هذا التناقض بين الجماهير الغربية والنخب الحاكمة تنذر بانفجارات داخلية مستغّلة التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية التي تفرّق بين الجماهير والنخب. وانفجار التناقضات الداخلية ينذر بأفول الغرب بل الانهيار الحتمي.
الحقيقة الثالثة هي أنّ عملية “طوفان الأقصى” قد تتحوّل من عملية مقاومة بامتياز إلى صاعق تغييري في المشهد العربي والإقليمي وحتى الدولي. فالسكوت عن جرائم الحرب التي ترتكب بحق الفلسطينيين لم يعد ممكناً تسويقه في النظام الرسمي العربي والإقليمي وقد يفرض على النظام العربي المشاركة في نصرة الفلسطينيين كي يتجنّب السقوط الداخلي. الجماهير الغفيرة العربية التي عبّرت عن دعمها للمقاومة في مختلف العواصم العربية وخاصة في مصر قد تنذر بذلك التغيير. فأوراق اللعبة لم تعد بيد الولايات المتحدة والبوّابة الصهيونية للحصول على الرضى الأميركي فقدت جدواها. هذا يعني في المرحلة الأولى من التغيير المراجعة الجذرية في المواقف التي كانت تفرضها موازين قوّة لم تعد قائمة. أما في المرحلة الثانية فقد تكون تغييرات في الخيارات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأهم من كل ذلك في بنية النظام الرسمي العربي حيث واقع التجزئة يتحوّل إلى واقع جديد يقترب من حال التشبيك الاقتصادي والسياسي وصولاً إلى شكل من أشكال الوحدة. فالمقاومة التي ستسقط الكيان تسقط أيضاً المبرر للكيانات العربية التي خلقها المستعمر.
سيسارع البعض على التشكيك في إقدام النظام العربي الرسمي على التغيير. وقد يكون ذلك البعض محقّا إلى حد ما، وبالتالي كان سقف التوقّعات للقمة العربية الإسلامية منخفضاً على الأقل وفقاً لتوقّعات أولئك البعض. لكن عملية المراجعة قد بدأت قبل عملية “طوفان الأقصى” التي ستساهم في تسريع وتيرة المراجعات. فالتفاهم بين حكومة الرياض وطهران الذي أبرم في شهر آذار 2023 ما زال صامداً رغم التشكيك من أولئك البعض ورغم الضغط الأميركي الهائل لإلغائه. فزيارة الرئيس الإيراني والمحادثات الجانبية بين ولي العهد محمد بن سلمان ورئيس الجمهورية الإسلامية إبراهيم رئيسي على هامش اجتماع القمة العربية الإسلامية في الرياض في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 تنذر بأن العلاقات ستتطوّر بشكل يفوق مقاربة جزئية لعملية “طوفان الأقصى” لترسم معالم أمن الخليج ومنطقة غرب آسيا والعلاقات مع الغرب. وكذلك الأمر بالنسبة للقاءات الجانبية بين الرئيس المصري السيسي والسوري الأسد على هامش اجتماع القمة المذكورة ما يدعم الرهان على تحوّل في المشهد العربي. البعض أراد من خلال تلك القمة ظهور تلك التحوّلات غير أن انعقاد تلك القمة وبالظروف التي رافقتها أتاحت الفرصة للبحث المشترك على صعيد الثنائيات قبل تعميمها على أطراف متعدّدة. الدليل على خطورة تلك الاجتماعات التجاهل الكامل للإعلام الغربي للقمة ولأبعادها وللنقاشات الجانبية التي رافقتها.
الحقيقة الرابعة هي التغيير في مفهوم المواجهة العسكرية بين جيش نظامي وحركة مقاومة. فبعد النموذج في جنوب لبنان نرى نموذجاً آخر في فلسطين لا يختلف في الجوهر عن النموذج في جنوب لبنان ويسقط أسطورة الكيان بأنه ملاذ آمن للصهاينة في العالم. وهذه المواجهة هي ذروة في التحوّل من بناء قوى الردع إلى إيجاد قوى استعادة الحقوق دون المرور الحتمي بضرورة البنية التقليدية للجيوش. بمعنى آخر، المقاومة من الناحية العسكرية تحوّلت من عامل ردعي ودفاعي إلى عامل استعادة الحق المسلوب. فصمود فصائل المقاومة في غزّة رغم كثافة القصف وبشاعة المجازر وضخامة الخسائر المدنية بعد أكثر من ستة أسابيع منذ اندلاع عملية 
“طوفان الأقصى” خير دليل على التحوّل في مفهوم المواجهة العسكرية.
الحقيقة الخامسة هي أن المقاومة لم تأت من الفراغ ولم تنم وتتحوّل فقط لأسباب ذاتية بل أيضاً لأسباب موضوعية ساهمت في إعطاء قيمة مضافة إلى التحوّلات التي حصلت في الإقليم وفي العالم. فالتحوّلات في العالم كانت أحد أسبابها الرئيسية أولاً تحرير جنوب لبنان في 2000، وإفشال المشروع الأميركي في العراق بسبب المقاومة في 2004، وتحرير غزّة في 2005، وانتصار تموز في 2006، وصمود سورية أمام الحرب الكونية عليها في العشرية الثانية من الألفية الجديدة، وصمود اليمن أمام تحالف القوى العدوانية منذ 2014، وسلسلة إنجازات المقاومة في فلسطين في 2008 و2012 و2014 و2021 و2022 واليوم في عملية “طوفان الأقصى”. فكل هذه التراكمات صنعت من المقاومة عاملاً تغييرياً أساسياً في المعادلات الدولية التي سمحت لدول كروسيا إعلان رفضها للهيمنة الأميركية في مؤتمر ميونيخ في 2007 وانتصارها في الحرب على جورجيا سنة 2008 ثم استعادة شبه جزيرة القرم في 2014 وخوضها بنجاح في عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا في 2022. كما أن المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وسورية واليمن وبدعم واضح وصريح من الجمهورية الإسلامية في إيران ساهمت في تمكين الصين من اكتمال بناء قوّتها الاقتصادية والشروع ببناء قدراتها العسكرية ما جعل التقارب الروسي الصيني عاملاً تغييرياً مفصلياً إضافياً مناقضاً للهيمنة الغربية. فبروز محاور جديدة تضرب الهيمنة الأحادية ساهم في تعزيز قدرات ودور المقاومة في الإقليم ما يضيف إلى قدرات المحاور الجديدة التي بدأت تفرز مؤسسات إقليمية ودولية خارج إطار الهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص.
بناء على ذلك فإن القراءة الجيوسياسية للمواجهة في غزة وسائر مناطق فلسطين المحتلة تجعل الصراع العربي الصهيوني جزءاً لا يتجزّأ من الصراع الكوني القائم بين كتلة الدول الرافضة للهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة والغرب الإجمالي. ألم يصرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن المجازر التي يرتكبها الكيان في غزّة جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب غير مقبولة وأن القوى الداعمة للكيان في تلك المجزرة هي نفسها التي تقاتلها روسيا في أوكرانيا؟ فالصراع في فلسطين والصراع في أوكرانيا والحرب الكونية على سورية ليست إلاّ أشكالاً من ذلك الصراع الكوني، وبالتالي سيعزّز التغيير في موازين القوّة في العالم. فهذه الساحات المشتعلة تعكس صراع موازين القوّة حيث الغرب يحاول إنكار انكسار الميزان لصالح الدول في الجنوب الإجمالي ومعه كل من الصين وروسيا. ومسار الصراع في فلسطين هو جزء من الصراع الكوني وإن كان العامل الفلسطيني يساهم بشكل مباشر في تغيير موازين القوة أسوة بالصمود في كل من العراق وسورية ولبنان في خلق معادلات جيوسياسية لا مكان فيها للغرب الإجمالي.
الأساطيل الغربية وخاصة الأميركية التي توجّهت إلى شرق المتوسط قد لا يقتصر هدفها على حماية الكيان أو منع “توسيع رقعة الحرب” كما تدّعي الإدارة الأميركية بل قد تكون محاولة لاغتنام فرصة من وجهة نظر المحافظين الجدد للانقضاض على لبنان ثم سورية ثم الجمهورية الإسلامية في إيران. بل هي تجسيد لحالة إنكار للتغيير في موازين القوّة، فأصبح عرض الأساطيل عملية استعراضية إعلامية تحاول إخفاء العجز العسكري وغياب الإرادة. التقديرات العسكرية تفيد أن عدد القطع البحرية قد يفوق السبعين قطعة أميركية وأطلسية. فهل كل ذلك لحماية الكيان؟ أما التدخّل الأميركي المباشر في غزّة عبر قوات المارينز وقوّات “دلتا” قد يجبر القيادات الأميركية على مراجعة مشاريعها بعد ارتفاع الخسائر البشرية والمادية لقوى التحالف الأميركي الصهيوني. وبما أن الولايات المتحدة دخلت فعلياً مرحلة الانتخابات الرئيسية ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في المدن الكبرى الأميركية ضد الحرب، فمن الصعب تصوّر إمكانية الإدارة في الاستمرار في دعم الكيان واستمرار الإبادة الجماعية حيث أصبحت الولايات المتحدة شريكة فاعلة وفعّالة في ارتكابها. كما أن التحوّل في لهجة كل من روسيا والصين تجاه ما يحصل في غزّة ينذر بأن خطوط حمر قد رُسمت.
فما هي الخيارات الممكنة أمام الحلف الأميركي الصهيوني؟ جاءت الإطلالة الثانية لسماحة السيّد حسن نصر الله في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 لتقول إن المسار السياسي المستقبلي يحدّده الميدان. وهذه هي الكلمة المفصلية التي تحدّد أسس المسارات السياسية المستقبلية في غرب آسيا. فإذا انتصرت المقاومة، وهي ستنتصر ليس لتلبية رغباتنا بل لأسباب موضوعية يمكن عرضها في مقاربة منفصلة ولكن نلخّصها بعجز عسكري لدى الكيان ولدى الحلف الغربي إضافة إلى الضعف السياسي وبالبنيوي لاقتصاد الكيان واقتصاد الغرب، فهذا يعني تغيير حتمي وسريع للنظام العربي القائم. وهذا يعني أن الحلف الأميركي الصهيوني يفقد متانة وجدوى وجوده. بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول إن وجود الكيان أصبح مسألة “متى” وليس مسألة “إذا” والـ “متى” تصبح مسألة أشهر فقط لا غير. انهيار الكيان قد يُنذر بانهيار الولايات المتحدة إذا ما نظرنا إلى تشابه نشأة الكيانين. الانهيار الأميركي قد يستغرق وقتاً أكثر من الكيان لكن الإرهاصات للتفكّك فالزوال موجودة وضاغطة وبانتظار اللحظة التاريخية لإطلاق عملية التفكّك.
هذا يطرح السؤال حول إمكانية تساكن نظام عربي لم يناصر طموحات الجماهير العربية مع حركة شعبية مقاومة انتصرت على العدو التاريخي للأمة العربية والعالم الإسلامي، أي التحالف الصهيو-غربي. كما أن انتصار المقاومة بكافة مكوّناتها الشعبية والنظامية يعني سقوط نتائج مرحلة سايكس بيكو وينذر بإنهاء المعاهدات القائمة مع الكيان. كما يعني أن سقوط سايكس بيكو يعني الدخول في مرحلة التشبيك الاقتصادي لمواجهة تحدّيات ما تبقّى من القرن الحادي والعشرين.
هذه التحوّلات الجذريّة في البنية السياسية والاقتصادية العربية لن تحصل في المدى القريب إلاّ إذا انتصرت المقاومة على الكيان وحلفائه ومهّدت لزوال الكيان في فترة زمنية قد تطول أو تقصر وفقاً لمزاج المستعمرين الذي سيتمسكون بوجود الكيان ولكن بشروط تعكسها موازين القوّة الجديدة التي لا يقبلها الصهاينة ولكن لا قدرة لهم على تغييرها. هذا قد يدخل النظام العربي في متاهات الحلول الدولية التي ستحاول الحفاظ على الكيان عبر حل الدولتين وإن كانت بشروط غير مقبولة للنهج الصهيوني. هذا هو الاحتمال الوحيد الذي قد يطيل من عمر الكيان ولكن دون أي آفاق له. فالجسم العربي لفظ ذلك الكيان وإن دام الصراع أكثر من قرن. فمصيره لن يختلف عن مصير حملات الفرنج في القرون الوسطى ولن يختلف عن مصير الدول المستعمرة التي دخلت الوطن العربي في القرنين الماضيين.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى