أولى

التشدّد في تطبيق القوانين يعطي الدفع المطلوب للحلول الاقتصادية

‬ أحمد بهجة*

لا شكّ أننا في لبنان نحتاج إلى بعض الهدوء والتروّي في كلّ شيء، خاصة في ما يتعلق بالعمل العام، من حيث مقاربة مشاكلنا وأزماتنا الوطنية المعقدة والمتراكمة منذ زمن، لأنّ التسرّع يودي بنا في غالب الأحيان إلى التهوّر ويجعلنا نقدِم على خيارات وقرارات نعتقد أنها توفر الحلول المناسبة لنكتشف مع الوقت أنها تسبّب الكثير من الأذى والضرر.
هذا ما ينطبق على الموازنة العامة للسنة الحالية التي أقرّها مجلس النواب يوم الجمعة 26 كانون الثاني الماضي، فبينما اعتقد البعض أنّه يؤمّن مداخيل إضافية للخزينة العامة من خلال فرض ضريبة استثنائية (10%) على الذين استفادوا من أموال الدعم أو من منصة صيرفة، لم يتنبّه هذا البعض إلى المفاعيل السلبية التي قد تنتج عن مثل هذا التشريع العشوائي الذي ورد في آخر لحظة ولم يكن مدرجاً في مشروع قانون الموازنة الوارد من الحكومة ولا كان موجوداً في التعديلات التي أدخلتها لجنة المال والموازنة على المشروع الحكومي.
الأكيد أنّ الخزينة العامة بحاجة حتى إلى فلس الأرملة، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان، والتي تتطلّب الكثير من العناية والرعاية من قبل الدولة، لكن الأكيد أيضاً أنّ دولتنا العلية (بفعل فاعل من داخلها) عاجزة عن مواجهة كارتيلات الاستيراد والاحتكار، رغم أنّ المسألة تحتاج فقط إلى قرار جريء يضع حداً لتحكّم هذه الكارتيلات بالأسواق، وأيضاً لا غنى في سياق هذه المواجهة عن تطبيق متشدّد وصارم للقوانين.
وهذا يُذكّرنا بما فعلته ولا تزال تفعله القاضية غادة عون في مواجهة حيتان المال في البلد، وأيضاً بما فعلته الوزيرة السابقة ندى البستاني حين أطلقت مناقصة لاستيراد كميات من المحروقات، وتحديداً مادة البنزين، لكي تواجه المستوردين المحتكرين الذين كانوا يتسبّبون عن قصد بأزمات خانقة ومتتابعة تجعل المواطنين يقفون في الطوابير أمام محطات الوقود، وذلك لكي يحقق أولئك التجار الجشِعون بعض الأرباح الإضافية على حساب الناس وبشكل يلحق الضرر الكبير بالاقتصاد الوطني.
لقد شكل تطبيق القوانين عامل إنقاذ أكيد في كلّ الأوقات، وهذا ما يجب أن نجعله عنواناً عريضاً في أيّ مقاربة أو خطة نريد من خلالها تحقيق بعض التقدّم في معالجة مشاكلنا وأزماتنا، أو على الأقلّ البدء بمعالجتها ووضع الحلول المناسبة لها حتى لو تطلّب التنفيذ بعض الوقت المهمّ أنّنا نسير في الاتجاه الصحيح… مع التشديد على أنّ بعض الوقت لا يعني أن تكون الأمور مفتوحة على الزمن لأنّ ذلك يفقد الحلول معناها وجدواها.
هنا نورد مثلاً قصة التعميم 151 الذي كان تطبيقه موضع خلاف بين حاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف التي اعترضت على التعميم بحجة عدم قدرتها على الالتزام به، كونه يحمّلها أعباء إضافية كبيرة بالدولار الأميركي هي غير قادرة على تحمّلها، إذ يفرض عليها التعميم المذكور تسديد 150 دولار شهرياً لأصحاب الحسابات بالدولار الأميركي الذين حوّلوا ودائعهم من ليرة لبنانية إلى دولار أميركي بعد 17 تشرين الأول 2019، وهذا يضيف شريحة لا بأس بها من المودعين إلى الذين يسحبون من ودائعهم مبالغ بالدولار، حتى لو كانت هذه المبالغ ضئيلة.
وهنا تشير المعلومات إلى أنّ الحاكم بالإنابة د. منصوري أصرّ على أن تطبّق المصارف هذا التعميم، خاصة أنّ التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان إلزامية، وقد توصلت الاجتماعات والمفاوضات إلى تسوية قضت بتعديل التعميم بشكل لا يغيّر من جوهره بالنسبة للمودعين، إنما بأن يتحمّل مصرف لبنان الـ 150 دولاراً منه، على أن تلتزم المصارف بسداد 50% من المبلغ بالليرة للمصرف المركزي. وهذا الإجراء يسمح للبنوك بالحفاظ على سيولتها بالدولار لمرحلة إعادة الهيكلة والتعافي. على ان يؤمّن مصرف لبنان المبلغ من السوق، حيث نجح في ذلك منذ خروج رياض سلامة من الحاكمية، وتحوّل الى صانع سوق شبه وحيد يرعى الاستقرار النقدي في انتظار إطلاق منصة «بلومبيرغ».
هذا مع بقاء التعميم 158 ساري المفعول، بحيث يستمرّ المودعون بسحب 400 أو 300 دولار من حساباتهم بالدولار الموجودة قبل 17 تشرين الأول 2019، خاصة أن الحاكم بالإنابة أزاح عن صدر المودعين عبء الـ «هيركات» من خلال تعديل التعميم المذكور، بحيث أزيلت منه إلزامية أن يسحب المودع مبلغ 400 دولار بالليرة اللبنانية إلى جانب مبلغ الـ 400 نقداً…
في المحصّلة، ومهما كانت مفاعيل هذه التعاميم فإنّ المودعين أمام خسارة الجزء الأكبر من ودائعهم، لأنّ تقسيط هذه الودائع بالشكل الذي تطرحه التعاميم يعني أن المودع الذي يملك في حسابه 100 ألف دولار على سبيل المثال يحتاج إلى نصف قرن تقريباً لكي يستردّ وديعته!!
هنا لا بدّ من دور أساسي للقضاء اللبناني الذي عليه القيام بواجبه في حماية حقوق المواطنين، فالقانون يجب أن يفرض على المصارف أن تسدّد للناس أموالها، تماماً كما يفرض القانون على أيّ مواطن أن يسدّد دينه للمصرف، ولتكن البداية بالحجز على موجودات المصارف وعقاراتها وأملاكها لمصلحة المودعين، تماماً مثلما يحجز المصرف شقة أو سيارة أو عقار يملكها أيّ مواطن عجز عن سداد دينه للمصرف…

*خبير مالي واقتصادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى