التشكيل اللغوي والتركيب الأدائي في قصيدة الشاعر محمد إقبال حرب… «ثوب ظنونك» مثالاً
أيمن دراوشة
ثوب ظنونك
سأخلع ثوب ظنونك
وأنزل بحر الوداع
كي أداوي جراحي
أغسل قراحي
أدفن الأوجاع
ظننتك عاشقاً
تراقص ألحاني
أسلمتك جسدي
ترشف ألواني
فقطعت أوتاري
بعثرت كياني
كأنّك سجّاناً
ولست إنساني
عزفت على أورادي
غنّيت على نحيبي
رقصت على أحزاني
مزّقت تلابيبي
خدشت كبريائي
مسحت وجودي
ألغيت حدودي
وحفرت تجاعيد شكٍ
بين خدّك وخدّي
رسمتك على لوحاتي
بعد غياباتي
حيث أرسلتني
حين قتلتني
بلسانك السّليط
واتّهامك المقيت
«أنت خائنة»
عدت إليك
أذيبك في ذاتي
أرتّل اسمك في صلواتي
لكنّ معبدك أقفل
كاهنه تحلّل
من رتبة العشّاق
وعاد إلى أسفل
ميتاً بلا جنّازٍ
لن أبكي عليه يوماً
وجوده كالعدم
ليس له داع!
تتعدّد تشكيلات الأداء الفني وتتنوّع صوَر تركيباته اللغوية. فمنها ما يكون منظوماً في خيط فكري يمتد بين أطراف القصيدة، وهذا الخيط يتمحور حول بؤرة المضمون، ومنها ما يكون خيطاً ذا مرونة يمتد في وقد العاطفة، ويواكبها حسب على حسب الموقف الوجداني المستكشف من خلال مساقاتها، ومنها ما يتكئ على الاندفاع النفسي في ما يشبه إيقاعاً دائرياً يتزامن مع البث اللغوي في مسار القصيدة:
في قصيدة «ثوب ظنونك» لمحمد إقبال حرب والتي اختيرت من ديوانه الشعري «عاشق النسيان» الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» ـ لبنان ـ 2014، ص 120، يحاول من خلال أداء لغوي ذي فاعلية متجدّدة داخل البناء النسيجي للقصيدة، وكأنها حصيلة مغامرة الخيال وهو يجوس بين أحراج الكلمات.
يعدّ الكاتب محمد إقبال حرب من أكثر الكتّاب العرب ممن دافعوا عن المرأة من خلال أدبهم النثري والشعري. هذه المرأة التي ما زالت مقيدة تحت وطأة العادات والتقاليد. وقد تعرّض الكاتب في أكثر من عمل له لقضايا المرأة، التي تقتل بطريقة همجية بِاسم الشرف، وسواء أكانت مذنبة أو غير مذنبة فهي المخلوق الأضعف، وهي التي تجلب العار، من هذا المنطلق ينظر الرجل الشرقي للمرأة ككيان عليه أن يكون معصوماً عن الخطأ الشرف وإلا فسوف يكون مصيره الموت، أما الرجل فليست مشكلة فباستطاعته الافتخار بجريمته، ونحاول إيجاد الأعذار له، ليذهب باحثاً عن ضحية أخرى.
من بداية القصيدة أو مطلعها «سأخلع ثوب ظنونك» نستطيع الحكم على نمط القصيدة واتجاهها من دون أن نخطئ، فكما نستطيع أن نحكم على عازف البيانو من الضربات الأولى من دون أن نحتاج إلى سماع المعزوفة كلّها:
سأخلع ثوب ظنونك
وأنزل بحر الوداع
كي أداوي جراحي
أغسل قراحي
أدفن الأوجاع
وهكذا فالتشكيل الأدائي عند محمد إقبال حرب يتغلغل داخل الاستعمال الحقيقي المتكئ على المعاني القاعدية التي اشتقّت منها الاستخدامات الشائعة، وعلى ذلك فإن الأنماط المتعددة للتحول الدلالي هي التي نستطيع أن نطلق عليها التعبيرات المجازية.
«سأخلع ثوب ظنونك ـ وأنزل بحر الوداع ـ أدفن الأوجاع ـ تراقص ألحاني ـ ترشف ألواني ـ فقطعت أوتاري».
تستثير القصيدة حالة أو حالات نفسية وشعورية لها إيقاع انفعالي متميز، بصور تتجاوز تخوم الفكرة، والمتغور أصقاع الوجدان.
هذا النسق الأدائي الذي هو عبارة عن تركيب لغوي قد تسلل إلى ذواتنا مثيراً خيالاتنا تجاه حقول تستنبت شكولاً من المشاعر وضروباً من الأحاسيس.
ظننتك عاشقاً
تراقص ألحاني
أسلمتك جسدي
ترشف ألواني
فقطعت أوتاري
بعثرت كياني
كأنّك سجّاناً
ولست إنساني
ولا تلجأ الأسطر الشعرية إلى السرد والتفصيل، وإنما بواسطة القول الخاطف حيث تنتقل المشاهد وتتعدّد المشاعر:
خدشت كبريائي
مسحت وجودي
ألغيت حدودي
وحفرت تجاعيد شكٍ
بين خدّك وخدّي
لو تتبعنا الظواهر اللغوية التشكيلية لوجدنا الفعل هو العنصر السائد في كل مقاطع القصيدة، وللفعل عادة دوراً ثنائياً ـ عنصر العلاقة ـ عنصر الحركة ـ فهو الذي يقيم علاقات الأشياء ويتحوّل بها، فهو محاولة للتركيز على الجدلية التي تقوم على الحركة.
وقد كان استخدام الفعل المضارع قليلاً مقارنة بالفعل الماضي، ربما كان هذا لأن الماضي هو الذاكرة المحكوم عليها بالظن والظلم والإثم، كما أنها أفعال ترمز ترسم مسار تحوّلات النصّ، كما ترمز إلى وقائع وأحداث. عزفت ـ غنّيت ـ رقصت ـ مزّقت ـ خدشت ـ مسحت .
والصور عند شاعرنا ليست من الرمزية الغامضة أو المعقدة، إنما هي صور بسيطة قد تعتمد على التشبيه والرمز واللفظ الإيحائي والصدمات الإيقاعية والتوزيع الوتري، فالصورة مع سهولتها ذات بعد عميق تؤكد حالة التمزق والانشطار:
رسمتك على لوحاتي
بعد غياباتي
حيث أرسلتني
حين قتلتني
بلسانك السّليط
واتّهامك المقيت
«أنت خائنة»
بدأت الصورة بخلع ثوب الظن، ثم التداعي الذي حقق دقة في التعبير وإحكام في التصوير، لتأتي نهاية الصورة موزعة توزيعاً وترياً تحمل معنى العدم والتلاشي…
وعاد إلى أسفل
ميتاً بلا جنّازٍ
لن أبكي عليه يوماً
وجوده كالعدم
ليس له داع.