غزة تنتصر: العدو بين الخيارات الصعبة والحلول المكلفة
د. مصطفى يوسف اللداوي
ظنّ العدو الصهيوني أنّ عدوانه على قطاع غزة سيكون مشابهاً لاعتداءاته السابقة، وأنّ أيام العدوان لن تتعدّى الشهر بأيّ حالٍ، وإنْ تجاوزت الشهر فبأيامٍ قليلة كعدوانه على لبنان في العام 2006، الذي استمرّ ثلاثة وثلاثين يوماً، انتهت بعدها كافة العمليات العسكرية، بقرارٍ صدر عن مجلس الأمن الدولي، أخرج الكيان من الحرج الذي وقع فيه، مسلّماً بعجزه عن طرد المقاومة إلى شمالي الليطاني، وفشله في نزع سلاحها، وتصفية قيادتها، وتفكيك بنيتها العسكرية والتنظيمية، ما جعله يقبل بالأمم المتحدة، لتنوب عنه في تحقيق ما عجز عن تحقيقه.
لكن قيادة العدو «الإسرائيلي»، السياسية والعسكرية قد أخطأت الحساب، ولم تحسن التقدير، ولم تأتِ النتائج وفق ظنها، صُدم العدو الصهيوني بكلّ أركانه أمام ثبات المقاومة وصمودها، وغنى مخازنها، وثراء مستودعاتها، وعنفوان شبابها، وقوة مقاوميها، وجرأة قادتها، وصمود شعبها، وقدرته الكبيرة على الصبر والتحمّل والثبات، فما شكى ولا أَنَّ، ولا بكى ولا تذمّر، ولا تبرّم ولا تأوّه، بل سبق المقاومة في مواقفها، وحضّها على الثبات في الميدان، والصمود في المفاوضات، وعدم تقديم تنازلاتٍ للعدو أياً كانت، بحجة أنّ الشعب قد تعب، وأنّ ما أصابه أكبر من قدرته على الاحتمال، وأنّ ما ينتظره في حال مواصلة العدوان سيكون مزلزلاً ومرعباً، وسيكون أشدّ وأقسى مما يتوقّعون.
أمام الورطة العسكرية، والمغامرة غير المحسوبة العقبات، والعجز الفاضح عن تحقيق نصرٍ واضحٍ على المقاومة الفلسطينية، باتت خيارات العدو «الإسرائيلي» للخروج من المأزق محدودة جداً ولكنها واضحة، وأصبح يعرفها السياسيون والعسكريون، والمراقبون والمواطنون على السواء، وهي جميعها بالنسبة إلى حكومة الكيان الصهيوني خياراتٌ سيّئة، لا تتناسب مع الطموح، ولا تلبّي الآمال التي كانوا يمنّون أنفسهم بها، فالاختيار والمفاضلة بينها بالنسبة إلى العدو الصهيوني سيّئة ومحرجة.
لكن أصبح لزاماً على الحكومة الإسرائيلية أن تقرّر، فالوقت لم يعد في صالحها، والظروف باتت لا تخدمها، ومعسكر الحلفاء وإنْ كان صادقاً في حلفه الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، ولا يتخلّى عنه، ولا يتركه في أزمته وحيداً، إلا أنه أخذ يتذمّر ويشكو، وربما شرع بعضهم في ممارسة الضغط على الحكومة «الإسرائيلية»، وإنْ بدا ضغطاً خفياً غير ظاهر، ناعماً غير خشن، دبلوماسياً غير فظ، إلا أنه يدلّ على غضب الحلفاء، ويبدي عدم رضاهم عن أداء وسياسة الحكومة «الإسرائيلية».
كما بات من الواضح للعدو الإسرائيلي أنه من المستحيل نزع سلاح المقاومة، أو تفكيك بنيتها العسكرية، أو القضاء على قياداتها السياسية والعسكرية، وإنْ كان قد نجح في اغتيال بعضهم، إلا أنه يدرك أنّ قيادة المقاومة ما زالت بخير، وأنّ مؤسساتها متماسكة، وتنظيماتها قائمة وقوية، وقدراتها على التواصل والتنسيق والاجتماع ما زالت كبيرة، فضلاً عن قدرتها على الصمود والمواصلة، بل إنها تبدي رغبةً في المواجهة، وتتحيّن فرص الاشتباك، وتعتقد بأنها قادرة برياً على تحقيق بعض الكسب العسكري على الجيش «الإسرائيلي».
على حكومة العدو الصهيوني أن تقرّر في الأيام القليلة القادمة ماذا ستفعل، وكيف ستتصرّف، إذ من المستحيل عليها وعلى المجتمع الدولي أن تستمرّ في المراوحة مكانها، من دون أن تخطو خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف، أو أن تركب حافلةً صديقة تقلها وتنقلها إلى نقطةٍ آمنة، أو أن تحقق أهدافها التي أعلنتها، وهذا أمرٌ بات في حكم المستحيل وغير الممكن.
كان لزاماً على الحكومة الإسرائيلية وقيادة جيش العدوان الاختيار بين جملة خيارات صعبة ومعقدة:
ـ القبول بالشروط الإنسانية والوطنية للشعب الفلسطيني، ومواصلة المفاوضات عبر الوسيط المصري، وعلى أساس الورقة المصرية التي عدّلها الوفد الفلسطيني المفاوض، على أن يلتزم ما يتمّ الاتفاق عليه، ويقرّ بأنّ العودة إلى الحال السابق غير ممكن، وأنّ إقرار سياسة التهدئة مقابل التهدئة غير مجدية، لأنها ستقود حتماً إلى حربٍ جديدة.
ـ مواصلة العدوان، والدخول في حرب استنزاف طويلة، وتحمّل نتائجها على «الإسرائيليين» واقتصادهم وحياتهم العامة، بالإضافة إلى صورة العدو السيّئة لدى المجتمع الدولي، في ظلّ التدمير والخراب وقتل المدنيين واستهداف المؤسسات، واستخدام القوة المفرطة، والأسلحة المحرّمة دولياً، علماً أنّ المقاومة كانت ستمضي في حرب الاستنزاف، لأنها الحالة الطبيعية بين شعبٍ محتلة أرضه، وبين عدو غاصبٍ يحتلّ الأرض وينتهك المحرّمات.
ـ إعادة احتلال قطاع غزة، عبر اجتياح بري واسع، علماً أنّ العملية البرية ستكلف العدو الكثير، وسيتكبّد فيها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والممتلكات والاقتصاد وكافة مرافق الحياة، وسيكون مضطراً للبقاء في قطاع غزة لسنوات عدة، يتحمّل فيها كافة المسؤوليات تجاه الشعب الخاضع لسلطته.
أو أن توقف العمليات الحربية العدوانية من طرفٍ واحد، وتتعامل مع الأحداث بما يناسبها، وهي حالة تشبه حرب الاستنزاف، وقد تقود إليها، كما قد تؤدّي في حال وقوع خسائر كبيرة إلى نشوب حربٍ جديدة، أو القيام بأعمالٍ انتقامية واسعة.
ـ أن تقبل بإحالة قضية قطاع غزة إلى مجلس الأمن الدولي، لتتكفّل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول أوروبا الغربية، بتحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالقوة، وهو الخيار الأنسب والأفضل لها، إذ ترغب في أن تشرك المجتمع الدولي كله في مراقبة قوى المقاومة، ومنع تسليحها، وتجفيف منابعها العسكرية، مقابل خدماتٍ إنسانية كبيرة تؤدّيها الأمم المتحدة برعايتها وتحت إشرافها لسكان قطاع غزة.
أيامٌ قليلة للموازنة بين الخيارات الآنفة، ثم انجلت الصورة، فكان الانتصار.