الإرهاب يخلط أوراق اللعبة الدولية! الحكومة السورية المعدلة… ثبات الموقف المبدئي
محمد ح. الحاج
منتصف خمسينيات القرن الماضي، اجتاحت موجة كبيرة من الجراد قادمة من الجزيرة العربية الأراضي السورية، وما كانت وسائل المكافحة متوافرة كما اليوم مواد كيميائية وتجهيزات وطيران زراعي، آنذاك أبدع الفلاح السوري معتمداً على الإرث والتجربة، وهكذا تحرك الجميع حاملين أوعية من التنك والنحاس وغيره، مع قطعة من الخشب وبدأت عملية الطرق على الأوعية وشاركنا فيها صغاراً من دون أن ندري المغزى… ويبدو أنّ أصوات الضجيج كانت تدفع أسراب الجراد إلى الخروج من المنطقة إلى مناطق مجاورة أو قرى مجاورة… المهم أن يبعد الفلاح أسراب الجراد عن مزروعاته، وبعضهم لجأ إلى إشعال بقايا القش الرطب في أماكن متباعدة لتوليد سحابة من الدخان كانت مفيدة في طرد الجراد الزاحف.
خلال الفورة التي اجتاحت المدن السورية، أطلق جهابذة قادتها تسميات على أيام الجمعة، وكان منها جمعة الضجيج وقد ذكرتني بحادثة الجراد، لكنهم هم من خرج هارباً من الضجيج ودخان المعارك، فكانوا الجراد الذي تكاثر وتناسل وفرّخ أسراباً ومسمّيات عديدة أكبرها حجماً «جراد داعش» الذي أوجدته الولايات المتحدة واليوم تعمل بكلّ أجهزتها لخلق ضجيج ودخان يتكفلان بطرده باتجاه الحقل المجاور في سورية المستهدفة أصلاً بمشروع «الشتاء العربي».
بعد استفحال خطر الإرهاب وتمدّد «داعش» و«النصرة» وأخواتهما إلى المناطق المجاورة بدءاً من العراق في المنطقة المشرقية وتهديدها لأماكن أخرى بالاجتياح، ومنها السعودية والأردن وباقي الخليج وتهديد بلدان أوروبية اسبانيا ، فتح العالم عينيه على وحش جرى تصنيعه وإعداده لهدف محدود، لكنه خرج عن السيطرة متجاوزاً الوظيفة التي تمّ تحديدها له، وهذه سمة الوحوش متى استفحل أمرها وتضخّم جسدها، القيادة السعودية مصابة بالهلع، وبريطانيا تعلن خوفها على لبنان والأردن، مع خشيتها من عودة الذين جرى تسمينهم وغسل أدمغتهم من حمَلة جنسيتها، وفرنسا تعلن المسارعة إلى تسليح الجيش اللبناني بتمويل سعودي، بعد محاولة «النصرة» الدخول إلى لبنان من بوابة عرسال، لكنها تنتظر إيماءة رأس صاحب القرار في المحفل الأعظم، أميركا تبادر إلى القيام بضربات جوية على حدود «داعش» المسموح وصوله إليها، وهي بالتأكيد لا تقصد نهايته والقضاء عليه جذرياً،
بادر مجلس الأمن إلى إصدار قرار تحت الفصل السابع معتبراً «داعش» و«النصرة» منظمتان إرهابيتان يجب القضاء عليهما وفرض حظر دوليّ لوقف تسليحهما وتمويلهما ملوّحاً بعقوبات قد يفرضها المجلس على الدول التي لا تتعاون، ولكن، من هي هذه الدول، وهل ستتمّ معاقبتها؟
تحالف دولي من نوع ما بدأ يتبلور، لن يبتعد في هيكليته وأهدافه عن التحالف زمن اجتياح ليبيا الذي سلك نهجاً بعيداً عن أيّ قرار دولي، لكنه هنا، يقترب من شكلية القرار من دون تطبيق جوهره، وتتوزّع الأدوار، إعلامياً بريطانيا وفرنسا ، ولوجستياً أستراليا وربما تنضم كندا ، وحده الطيران الأمريكي يقوم بالهجوم على الحواف الهشة للتنظيم بقصد تجميعه وتوجيهه صوب الأراضي السورية في عودة متجدّدة بعد تزويده بأسلحة حديثة، وكما يقود راعي البقر وكلابه القطيع صوب الزريبة، تفعل أميركا الدولة الاختصاصية في هذا المجال لتعيد سرب «داعش» إلى الموقع الذي تحدّد له ضمن الأراضي السورية للاستمرار في استنزاف الدولة السورية، عسكرياً واقتصادياً، وما الإعلان الأوروبي عن إسقاط جنسية المشاركين مع «داعش» ومنع عودتهم إلا لمنع هؤلاء من التفكير بترك التنظيم والعودة إلى حياتهم الطبيعية، وكأنّ هذه الدول تقول لمواطنيها المشاركين: ليس أمامكم إلا القتال حتى الموت… كل الدول الأوروبية ستفعل ذلك طبقاً للتوجيه الصهيو أميركي لاستكمال العملية التي بدأت قبل سنوات بموجب مخطط نشر الفوضى في محيط الكيان العدو، أما الغاية فهو رأس المقاومة التي ارتكزت إلى دعم وتسليح سوري إيراني وغطاء سياسي متعدّد الأطراف.
اليوم وبعد استنزاف هذه الدولة وتحقيق شبه انهيار اقتصادي، وبعد خروج الجيش السوري من دائرة الفعل والموقف المحسوب حسابه من قبل العدو، فقد أصبح مطلوباً قطف ثمرة العملية وتحقيق ما لم يتحقق عسكرياً حتى اللحظة بطريقة التفافية، عن طريق توزيع الأدوار وتوكيل قطر وتركيا دور الوساطة لاستعادة «داعش» و«النصرة» مواقعهما ضمن منطقة القلمون على أن تفتح لهم سورية ممراً آمناً مع أسلحتهم، مقابل إطلاق العسكريين اللبنانيين المخطوفين، وبالتالي قيام معركة ثانية، بحشد جديد، وأسلحة جديدة تستهدف هذه المرة المقاومة المتمثلة بحزب الله وحلفائه، إذ لم تعد الدولة السورية في الموقع الذي يسمح لها بالدعم، بل هي من يحتاجه في وجه تحالف دولي واسع النطاق، لو استهدف دولة أخرى لقضى عليها خلال أشهر.
«داعش»، هي «داعش» في العراق… تنظيم إرهابي مطلوب رأسه، أما «داعش» و«النصرة» في الشام فهما «الجيش الحر»، هكذا تصفه المحطات العبرية الناطقة بالعربية، وعندما تستعرض متحدثين باسمه ترى في وجوههم «داعش» ذاتها و«النصرة» أختها، أما بقايا شراذم ما يُسمى «الجيش الحر» فقد أصبحت رهينة محابسها في مناطق صغيرة متفرّقة، لا حول لها ولا قوة، تنتظر النهاية المحتومة، إما القتل، أو مبايعة الخليفة، أو أفضل الأمرّين الالتحاق بـ«النصرة» معلنة حربها على «داعش» لتصفها الولايات المتحدة ومنظومتها الأوروبية بأنها التنظيمات المعتدلة، وهذا ما هو واضح بجلاء في الموقف الفرنسي المتعنّت تجاه الدولة السورية على خلفية مصالح فرنسية مرفوضة، اقتصادياً وسياسياً منذ زمن شيراك ومن بعده ساركوزي الذي تنبّأ بـ»سقوط الأسد»، لكنه هو مَن سقط.
العسكريون اللبنانيون المخطوفون ورقة للتفاوض بيد قطر وتركيا لغاية لم تعد خافية، ورغم دخول جهات كثيرة على خط المفاوضات، وهم على كثرتهم مجرّد ظاهرة صوتية تستهلك الزمن، وأداة لإثارة الشعب اللبناني أهالي المخطوفين، وطوائفهم ، ومع أنّ المطالب تتضمّن كسراً لهيبة الدولة اللبنانية وإرادة الشعب اللبناني وتجاوز نظام القضاء فيه، إلا أنّ مجموعة من السياسيّين يتبنّون هذا الخيار ويشجعون عليه، ولهؤلاء اتصالاتهم السرية المشجعة على التشدّد في المطالب، بل وتنفيذ ما تنذر به التنظيمات الإرهابية من عمليات ذبح وقطع رؤوس لعسكريين من لون معيّن، وهذا يعبّرعن مستوى الدناءة التي وصلت إليها سياسة الفوضى الهدامة في المنطقة والعقليات التي تقودها… فهل نسمع عن تهديد رسمي بتطبيق عقوبة الإعدام على المجرمين القابعين في السجون اللبنانية والذين قتلوا عسكريين لبنانيين سابقاً واعتدوا على أمن لبنان واللبنانيين مقابل العسكريين الذين يتمّ إعدامهم على يد تلك العصابات وبتوجيه مشترك داخلي خارجي؟
الدولة السورية التي أعلنت موقفها المبدئي قبل سنوات، بمقاومة المشروع الصهيو أمريكي، وعدم الرضوخ أمام الإرهاب عبر حكومات متتالية، ثمّ وبعد انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة بوجود منافسين، تعيد تأكيد موقفها المبدئي الثابت، بتثبيت الوزارات السيادية المعنية بالأزمة، وأهمّها الدفاع إذ من غير المعقول تبديل القائد خلال المعركة لم يفعلها خالد بن الوليد مع أبو عبيدة، رغم قرار الخليفة عمر، بل انتظر حتى انجلت المعركة عن النصر وما التأكيد على بقاء المعلم إلا تثبيتاً للسياسة الخارجية السورية، وكذا بالنسبة إلى الداخلية التي تبذل جهوداً جبارة للحفاظ على أمن الوطن والمواطن… وهكذا الإعلام رغم المآخذ الكثيرة عليه! سورية بتشكيلتها الحكومية الجديدة تبعث برسالة إلى العالم، وخاصة الغرب المتوحش… أنها لن تغيّر دفة سياستها، لا العسكرية، ولا الخارجية ولا الداخلية، ولن تساوم من تحت الطاولة، وأنها تعلم وتدرك أبعاد اللعبة الصهيو أمريكية.
سورية تدرك تماماً أنّ تركيا لن تغلق الحدود في وجه «داعش»، لا تسليحاً ولا تمويلاً، بل تستمرّ بتجاهل دخول المزيد من الدواعش القادمين من أنحاء الأرض، وأنّ مجلس الأمن لن يتوجه إلى هذه الدولة بالمساءلة ولن يقول لأردوغان ما أحلى الكحل بعينك كما أنّ الجوقة الخليجية ستستمرّ في ادائها الوظيفي، تمويلاً، رجالاً وعتاداً واللعب على حبال الكلمات والمواقف، والانصياع الفعلي للتوجيه الوارد من الباب العالي، لكن سورية تعد الجميع بأنهم ملاقون جزاءهم، وأنهم سيحصدون شوك العاصفة التي أثاروها ونفخوا أوارها…