عتبة الممكن وبوابة المتاح
علي قاسم
وضع الناطق باسم الرئاسة الروسية النقاط على حروف أرادت أميركا لها أن تبقى خارج الاستخدام السياسي، وبعيداً عن التداول الإعلامي، وتحديداً حين طرح تساؤل العارف بأنه يجب التفكير في ما إذا كان الفصل بين مَن تسمّيهم أميركا بالمعارضة وبين الإرهابيين ممكناً، بما يستدلّ عليه من وقائع وأدلة وقرائن وصولاً إلى المعطيات الدامغة على التوظيف المستنسخ لتراجيديا الفصل، وهذا بعضٌ مما هو مسكوت عنه، وقد افتقد مبرّراته ونفدت ذرائعه.
فالقاصي والداني يدرك الاستحالة الفعلية للفصل، ليس لعدم توافر الإرادة السياسية لذلك أميركياً فقط، وليس للرفض المطلق من البعض الإقليمي فحسب، بل لأن الاعتدال وسط الإرهاب مجرد فانتازيا، وقد جرب الأميركي عبر استخباراته وأجهزته المختلفة وأدواته ومرتزقته البحث، لكن عبثاً ومن دون طائل، ذلك أنَّ اختلاف التسمية لا يعني فرقاً في الجذر والأصل والمرجعية الظلامية التي تقود المشهد برمّته، ولدى أميركا إرث متراكم من التجارب الفعلية في التعاطي مع التنظيمات الإرهابية وحصيلة المشهد النهائي وكمُّ التوظيف السياسي والدعائي والأجندات.
فالنصرة لا يمكن فصلها عن النصرة، وداعش لا يمكن تمييزها من داعش، والحال ذاته ينطبق على سائر التنظيمات الإرهابية، حيث مَنْ هو في جبهة النصرة سيكون غداً في تنظيم آخر تختلف فيه الولاية الإقليمية أو تتغير راية مرجعيته بين أداة إقليمية وأخرى خارج المنطقة. وهذا ما آلت إليه سائر المحاولات المحمومة أميركيا، والتي كانت تستهدف إشغال الوقت أكثر مما كانت ترمي فعلياً إلى إيجاد فارق يمكن الاتكاء عليه للمحاججة أو المبازرة.
المماحكة الأميركية الأخيرة لم يكن بمقدورها أن تضيف إلى رصيد نفاقها المتخم، وهي تلقي بآخر أوراقها في لعبة خلط المشهد بتفاصيله المختلفة، بحيث تتشابه الوقائع أحياناً، وتتبدل الأولويات، لكنها تحافظ على المنحى ذاته، فأميركا حين أجهضت بالتكافل مع أدواتها الفرصة المتاحة التي وفرتها التهدئة المعلنة في حلب، كانت تدرك أنها تنسف معها مساراً كاملاً من الاحتمالات والاستنتاجات التي ساقتها ظروف ومعطيات كانت تبني على ما بعدها من أجل تحقيق اختراق في حائط مسدود يصرّ الأميركيون على المراكمة فوقه، بحيث لا تكتفي بعودة الأمور إلى المربع الأول، بل إلى ما قبله، وفي أحيان كثيرة إلى ما هو خارجه، لتبدأ بنسج خيوط محاولة أخرى تعيدنا إلى المماحكة في الموقع ذاته.
ومن البديهي أن يكون البديل هو الاسترشاد بحلبة تصعيد، وبحقبة من التسخين تزيد من تعقيد الأمور، وتدفع إلى الجزم بأن الأيام الفاصلة ليست أكثر من سيناريو يراكم على ما بعده، كما اعتمد على ما قبله، وسط سيل من التداعيات المرافقة التي تعيد شدّ خيوط التمترس في خنادق مفتوحة، وعلى جبهات تتقاطع فيها خطوط التماس، وأحياناً تتطابق متاريس المواجهة مع ما تتطلبه العودة إلى البديهيات، أو المسلمات التي تحكم السياسة الأميركية وما تقتضيه بالضرورة استحضار ما يقابلها على الطرف الآخر.
فالواضح أن الفصل غير ممكن ولا هو بمتاح، ولا إرادة فعلية نحو ذلك، حتى لو كان بعضه مواربة أو تدويراً في الزوايا، والواضح المقابل أو المواجه له أن هناك ما هو متاح وممكن ويجب التعاطي معه على أرض الواقع، وهو أن كل الإرهاب مرفوض، ولا فرق بين تنظيم يحمل عباءة التكفير وآخر يرفع راية الذبح والقتل، ولا اختلاف بين إرهاب يمارس وحشيته، وداعم ومموّل وحاضن يعوِّل على الإرهاب لتنفيذ أجنداته، والعتبة الفاصلة مجرد وهم أو تفصيل صغير يضيع في ردهات المماحكة الغربية التي لا تزال تراهن عليه، وتوظف ما ينتج عنه لتعويض ما فشلت به أو لتعويم ما تخطط له.
الممكن الحقيقي والفعلي أن يكون هناك فصل بين مَن يحارب الإرهاب ومَن يحابيه ويحميه، حيث لا يستوي الأمر بين طرفين متناقضين إلى حد الإلغاء، ويستحيل أن يتلاقى الصيف والشتاء تحت سقف واحد، فمن كان شريكاً في الإرهاب وطرفاً أساسياً في تسهيل مروره وتحضيره وإقامة معسكراته وتأمينها لا يستطيع أن يكون في مواجهة معه، حتى لو ادعى غير ذلك، أو أضاف إلى أكاذيبه وسيل نفاقه فصلاً جديداً أو مشهداً من خارج السياق. فالفارق بيِّن وواضح بين عتبة الممكن وبوابة المتاح.
فالتركي والسعودي والقطري والفرنسي والبريطاني، ومعهم الأميركي في مختلف التلونات والتعرجات، اختاروا موقعهم ودورهم الذي لا يستطيعون أن يكونوا خارجه حتى لو خلعوا عباءاتهم لبعض الوقت، أو خرجوا من جلدتهم بدافع الظروف، أو تلبية لاستكمال بعض الأكاذيب، ليبقى السؤال المعلق.. كيف للتركي أن يوفر جحافل إرهابية «بصفتهم المعتدلة» في بضعة أسابيع أو أشهر، فيما الأميركي كانت تلك «المعتدلة» على لسان رئيسه مجرد فانتازيا، وكل ما دفعته خزينته من ملايين الدولارات لم تنتج معه أكثر مما تعد أصابع اليد الواحدة؟!!
تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية