الإنسان بين «إصرار الذاكرة» وذاكرة تكوينه
تمام علي بركات
«الإنسان هو مجموع ذكرياته»، هذه واحدة من المقولات الفلسفية الرشيقة والكثيرة التي تُعرّف أو تحاول أن تضع تعريفا لـ«الإنسان»، وهذا التعريف رغم قسوته وتطرّفه في إلغاء عددٍ من مكوّنات الوجود المادية والمعنوية الأخرى للإنسان كالأثر والهوية، إلا أنّه تعريف صائب وفق المنطق الروحي وحتى الماورائي الخاص به وبرؤيته وتفاسيره.
بيد أننا نستطيع وفق هذا التعريف القول: إذا كان جسدُ المرء هو كيانه الماديّ، فذاكرته هي كيانه المعنويّ، ذكريات المرء عن نفسه هي ما يصنع شخصيته ونظرته إلى ذاته، حتى إن غابت بعض تلك الذكريات واختبأت وكمنت في لاوعيه إلا أنها تكون قد وضعت خطّاً أو لوناً أو لطخةً في لوحة كيانه.
الآخرون أيضاً يستمدّون نظرتهم إلى المرء من خلال ذكرياتهم عنه، لذا فالذكريات هي الفنان الذي يرسم ما نراه في أنفسنا وما يراه الآخرون فينا، ويضع هذا كلّه في لوحة نسمّيها حياتنا، والتي قد تبقى معلّقة على حائط الزمن حتى بعد انتهاء تلك الحياة.
هذا ما أدركه بالسليقة أولاً، رائد السوريالية التشكيلية سلفادور دالي 1904 ـ 1989 ، فالذاكرة هي نحن، وهذا كان السبب وراء رسمه لوحته «إصرار الذاكرة» 1931 ، التي نرى فيها تمازجاً فريداً بين الألوان، تحاول الطبيعة ذاتها تقليده وكأن «دالي» صنعه بكاميرا لا بريشة.
وبما أن الذاكرة هي موضوع اللوحة فقد نثر رسّامها ساعات في لوحته لأنه أدرك أن الوقت هو المادة الخام للذاكرة، وعملياً فالوقت يدخل في مكوّنات ومقادير كل شيء في هذا الكون، فهو مرافقنا الدائم أينما نذهب وفي كل ما نفعل، فلا شيء آنيّاً ولا شيء لحظياً، وقت كلّ منّا هو تلك القطعة المستقيمة التي نسمّيها حياتنا والتي هي جزء من ذلك المستقيم اللانهائي الذي نسمّيه الزمن أو الأبد. ورغم محدودية القطعة المستقيمة لكلّ منّا، إلا أنها رياضياً تحوي عدداً لا نهائياً من النقاط تماماً مثل المستقيم اللانهائي، ومن هنا نجد أنه مهما كانت حياتنا محدودة وقصيرة إلا أننا نستطيع بناء ذكرياتٍ في نقاطها بقدر ما يمكننا أن نبنيها في أبدية مطلقة، والوقت موجود ليساعدنا لأننا لا نستطيع فعل كل شيء في نقطة واحدة من مستقيم الزمن.
ولا بدّ من لفت الانتباه إلى ملاحظة هامة قدّمتها أعمال دالي التشكيلية عموماً و«إصرار الذاكرة» بشكل خاص، وهي أن عامل الوقت الذي نحتاجه لعمل أي شيء لا يستمدّ قيمته من كميته بل من نوعيته ونسبيته. ويقال إنّ سلفادور استوحى تلك اللوحة من نظرية آينشتاين النسبية، حيث علم أن شعور المرء بالوقت نسبيّ ويتعلّق بالحدث الذي يمارس سلطانه على ذلك الوقت، وقد يكون قد أظهر هذا من خلال حلم ذلك الشخص النائم المدثّر بساعة، حيث قد يعيش في حلمه أحداثاً تستغرق دهوراً بينما فعلياً يستغرق كل حلمه بضع ثوان على الأكثر.
إيجاد أفضل تمثيل مرئي لوصف حالة الإنسان وهو يحلم، هي إحدى أهم أهداف السورياليين ومنهم دالي، الذي يبيّن في اللوحة آنفة الذكر، كيف أن مفهوم الوقت الاعتيادي يصبح اعتباطياً وغير منطقي، وبلا فائدة في داخل حالة الحلم. فنحن أثناء حياتنا اليومية، نكون دائماً في حالة من الانشغال والاستعجال، محاولة منّا لإنهاء جميع مشاغلنا في الوقت المحدّد. فالساعات الذائبة والمائلة، ترمز إلى مرور الوقت غير المنتظم الذي نشعر به أثناء الحلم، بينما نحن غالباً ما نكون جيدين بتتبّع مرور الوقت أثناء سعينا اليومي. إلا أن تتبّع الوقت أثناء نومنا لهو قصة مختلفة تماماً.
«إصرار الذاكرة» تعتبر مع ساعاتها الأيقونية الذائبة، والتي هي من أكثر لوحات دالي شهرة، أيقونة للسوريالية وواحدة من أكثر القطع الفنية شهرة في القرن العشرين، بينما لا يمكننا أن نعرف بطريقة مؤكدة المعنى والتأويل أو التحليل الحقيقي الذي قصده دالي في لوحته، خصوصاً أن السوريالية تترك المجال مفتوحاً للتأويل والاحتمال والخطأ ووجوب الوقوع في الخطأ. ففي اللوحة نرى أيضاً الإنسانيةَ متمثلةً بالشخص النائم ذاته الذي يبحث عن الدفء متدثّراً بوقته الخاص، وقد دخل في غفوة وسبات ولم يعد يأبه للزمن الذي يمضي من دون أن يشعر به، حيث تتغير الطبيعة حوله متمثلةً بتلك الشجرة الجرداء مع مضيّ وقتها المتعلّق بها.
أيضاً الساعات المائلة تشير إلى أنّ الوقت لا تأثير له في عالم الأحلام. ولذا فهي تذوب. ورغم أن الزمن مستقيم، إلا أننا نقوم بقياسه عن طريق دوائر ومدارات، كدوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس، ما جعلنا نصنع ساعاتنا دائرية الشكل.
الدوران دوماً يرمز إلى التكرار، وبهذا التكرار يعطينا الزمن الفرصة تلو الفرصة واليوم تلو اليوم والسنةَ تلو السنة لنصنع شيئاً من تلك المادة الخام المسمّاة حياتنا. فقد صنع لنا مستقيم الزمن من نفسه دوائر ليغفر لنا ويمنحنا فرصاً لنستيقظ ونقوم بما علينا القيام به كبشر، حتى نصبح ذكريات معلّقة في حائط الأبد قبل أن تنفتح تلك الساعة الحمراء المغلقة وترينا عقاربها التي تشير إلى النهاية، الساعات الحمراء التي رسمها دالي وكأنها عين تحدّق إنما في الجحيم.
أديب سوريّ