رواية عبد الرّحمن مجيد الرّبيعيّ »نحيب الرّافدين» سيرة رؤيويّة لوجوديّة الذّات، إبداعاً وثقافةً ومجتمعاً
د. لؤي زيتوني
ليس من العسير على القارئ الذي تصادفه لفظة «الرّافدين» أن يحيل تفكيره نحو دلالات متعلّقةٍ بالمسألة العراقيّة وما مرّ عليها من معاناة، وإن اتخذت في وجهاتٍ ثابتةٍ تعود إلى الموقف السّياسيّ الذي يختزنه هذا القارئ أو ذاك. ولعلّ هذا ما يعترينا عند قراءة عنوان رواية عبد الرّحمن مجيد الرّبيعيّ «نحيب الرّافدين»، بما يحمله من دلالاتٍ واقعيّةٍ ورؤيويّةٍ وشعريّة. أمّا أن يكون لهذين الرّافدين «نحيب»، فهنا تتبدّى عمق المسألة، نظراً لما لظاهرة النّحيب من أبعادٍ تاريخيّةٍ وتراثيّةٍ وشعبيّة في الحياة العراقيّة عدا كونها لا تترادف مع الحزن، لأنّ هذا الأخير قد لا يبرز للعلن، وليس شرطاً أن يكون معلوماً من قبل الجميع في حين أنّ النّحيب يتميّز بعلانيّته، ما يشير إلى أنّه معاناة مسموعة تمّ إشهارها للعيان.
وعند الغوص في رواية «نحيب الرّافدين» نرى أنّها نتاج حمل همّ مجتمعٍ بأكمله رزح تحت وطأة الظّلم والحرب والاحتلال… لذلك أتت على شكل نحيبٍ يبرز عمق المأساة التي تطال كلّ فردٍ من الشّعب إلاّ أنّ المفارقة تظهر في كون هذا النّحيب قد أخذ يتّسع ليطال الفئة المثقّفة التي ينبغي أن تتْصف بالهدوء، وأن تكون قد بلغت هذا الحدّ من الانفعال، فهذا يدلّ على أنّ المعاناة وصلت حدّاً خطيراً، قد يكون حدّ اللاّعودة.
انطلاقاً من ذلك، يمكننا أن نجد في الرّواية سيرة ثقافيّة واجتماعيّة في آن، تحت وطأة الحرب العراقيّة الإيرانيّة الموصوفة بالعبثيّة في ثمانينيات القرن الماضي، والتي توازت مع حربٍ أخرى أهليّة ربضت على الأرض اللّبنانيّة بعبثيّتها المعروفة. ومن خلال ذلك، نشهد مسيرةً رؤيويّةً لبطل الرّواية «غسّان العامريّ»، الشّاعر المعروف، والمثقّف، والدّبلوماسيّ… استناداً إلى بؤرته السّرديّة التي اختصرت حياة المثقّف، المثقّف الحقيقيّ، والآلام التي يمرّ بها في كلّ من العراق ولبنان، بما تحمله هذه العبارة من دلالات الظّلم والقمع والموت والإذلال ما يحيل إلى الطموحات المبتورة لفئةٍ بأكملها تعجز عن تحقيق ما تصبو إليه على المستوى الجمعيّ والإبداعيّ معاً. الأمر الذي يجعل من الخلاص الفرديّ بالابتعاد عن أرض الوطن ملاذاً وحيداً نجح البعض في بلوغه، بينما عجز «غسّان» على مدار العمل عن التمكّن منه.
تُبرِز هذه المسيرة الخاصّة والسّيرة الجماعيّة، رؤية الكاتب – الرّاوي النّقديّة إلى البنية الاجتماعيّة والسّياسيّة والتّفكيريّة، وإلى السّلطات المتعاقبة في العراق على وجه الخصوص، وإلى التي تشابهها على وجه العموم. وذلك من باب مقارنات تاريخيّة مع شخصّياتٍ شكّلت في ذهن «غسّان» الأنموذج الأعلى للقيم، كانت أبرزها شخصيّة «عبد الكريم قاسم» التي أخذت حيّزاً واسعاً من استرجاعات بطل الرّواية لتلقي الضّوء على حجم المشروع التّهديميّ ضدّ بلاده.
من خلال حال التّوازي والمواءمة التي أقامها الكاتب بين العراق ولبنان، أحال في أكثر من موضعٍ إلى قدوةٍ أخرى شكّلت في ذهنه أنموذجاً أرقى آخر للقيم، وأعني شخصيّة «أنطون سعاده» إذ أبرزه السّياق السّرديّ بداءةً ليقيم رابطاً انتمائيّاً بين العراق ولبنان، وذلك عبر كلامٍ على لسان الرّوائيّ «يوسف حبشي الأشقر» يعرب فيه عن قبوله بفكر سعاده واقتدائه به. وفي موضعٍ آخر، نجد هذه الشّخصيّة تفرض حضورها ليقيم مقارنةً بين نهاية «عبد الكريم قاسم» المأسويّة الماثلة في ذهنه من جهة، وبين مؤامرة اغتيال «سعاده» التي يطّلع عليها من خلال قراءته لنصّ الكاتب سعيد تقيّ الدّين «حدّثني الكاهن الذي عرّفه». ولعلّ في ذلك إصرار من قبل الرّاوي على رؤيته في أنّ الشّخصّيات «الخلاصيّة»، أو المنقذة الأمّة، والتي تحمل القيم الكفيلة بقيامة المجتمع، المطلوب محاربتها وإزاحتها عن السّاحة من قبل قوى الهيمنة الخارجيّة وبأيدٍ داخليّة.
تجدر الاشارة إلى أنّ شخصيّة «غسّان العامريّ»، بنسيج العلاقات الخاصّة التي تقيمها، وبالارتباط العاطفيّ غير الرّسـميّ الذي أقامه مع «حنان عوّاد»، أعطى بعض الأمل في ظلّ ذاك اليأس المطبق. إذ إنّه أكّد الهمّ الثّقافيّ والوجوديّ في آن، وعلى الهاجس الفكريّ لهذه الفئة ببناء مجتمعٍ متماسكٍ واعٍ ودولةٍ قويّةٍ عادلة قوامها الحريّة والانتماء والعدالة.
أمّا النّهاية المفتوحة التي ختم بها الرّواية بعد موجة الأمل المبنيّة على أملٍ بانتهاء الحرب، فلم تكن الغاية منها مجرّد الاشارة إلى ما جرى من أحداثٍ أليمةٍ بعد المرحلة التي تغطّيها الرواية، بل كانت عنصراً روائيّاً يربط بين أرض العراق وبين المأساة على مرّ تاريخه.
في المحصّلة، رواية «نحيب الرّافدين» سيرة ثقافيّة واجتماعيّة وفكريّة لذاتٍ رصدت الأزمات الوجوديّة التي يعاني منها المجتمع العراقيّ بعامّة، والفئة المثقّفة منها بخاصّة وهو ما سلّط الضّوء على حال التّفسّخ الاجتماعيّ والأخلاقيّ المتجذّر في حياتنا بفعل الطواغيت وأرباب الفساد، وبفعل المصالح الفرديّة وما يقف خلفها من مشاريع خارجيّة. إضافةً إلى ذلك، يمكننا أن نقع على البنية السّرديّة التي تقوم على دائرة محوريّة كبرى شكّلتها حبكة «غسّان العامريّ» الرّئيسة، وفي فلكها تتحرّك دوائر فرعيّة صغرى عزّزت من تماسك الرّواية، وهو ما يحتاج إلى بحثٍ متخصّص لكشف كوامنه بعناية.
إلاّ أنّه ينبغي أن نصرّح بأنّ «نحيب الرّافدين» رواية جديرة بالقراءة واكتشاف الرّؤية الخاصّة التي تقف خلفها، لكونها قدّمت نفسها بوصفها عملاً سرديّاً متقدّماً يغني المكتبة الأدبيّة في بلادنا، كما يغني الحيويّة الفكريّة التي تفسح في المجال أمام حواراتٍ ومقاربات لا حصر لها، إلى جانب إظهار هاجس الانتماء الحقيقيّ واستقراء الدّور الحقيقيّ للمثقّف أو للمنتج فكريّاً – ثقافيّاً.