الفنّ والرؤية في خطاب برّي
د. طوني كرم مطر
«البناء الفنّي والبناء المعنوي في خطاب الرئيس نبيه بري»، رسالة أُعدّت لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها، من قبل الطالب مصطفى الفوعاني. أهمية هذه الدراسة تكمن في أنها تطلّ على رجل سياسيّ من زاوية أدبية، هو الرئيس برّي، الرجل الفصيح والألمعي على صعيد الخطابة. وهذه الدراسة هي الأولى على هذا الصعيد، وقد كشفت وفق الطريقة البنيوية ما كان مخبوءاً، وخصوصاً لدى من كان بمثل الرئيس برّي.
ولهذا، فإن الدراسة أكدت أنه من الطبيعي أن يُدرَس رجل السياسة من زاوية أدبية نقدية، لأن برّي يملك لغة خاصة به، ما جعل الدراسة في خمسة فصول منهجية.
ونجاح هذه الدراسة أنها استطاعت استقصاء ظواهر أسلوبية وبنيوية جديدة لم تكشف سابقاً، ذلك لأنّ أهمية الموضوع أنه يطرح بعمق مسألة البناء الشعري لدى المبدع، لأنه يربط السياسي بالأدبي والأدبي بالسياسي.
على المستوى الإيقاعي/الصوتي:
بناء القصيدة في خطاب الرئيس برّي، بناء حداثيّ، لأنه يتحرّر من قيود الوزن والقافية ويعتمد التفعيلة وحدةً إيقاعية له.
تتراوح القصيدة في خطاب برّي بين القصيدة التفعيلية من جهة، والقصيدة النثرية من جهة ثانية.
ينسجم البناء الموسيقي مع رؤية برّي، من خلال التنسيقات الصوتية المعتمدة في القصيدة، ومن خلال القدرة على التحكّم بالوزن وتطويعه التجربة، ما يعني أنّ برّي ذو مَلكةٍ إيقاعية واعدة، تفتح الباب أمام دراسات نقدية مستقبلية كثيرة.
البناء الإيقاعي الموسيقي في خطاب برّي متحرّر من قيود الوزن الفراهيدية، ما يعني أنه بناء حديث ومعاصر.
لعبة «الوزن» معقدة في هذا البناء: فأحياناً يكون هذا الوزن متسارعاً، وأحياناً متباطئاً، ولا بدّ من الدقّة في دراسته، لمعرفة مواطن سرعته وأسبابها، ومواطن بطئه ودلالتها.
على المستويين الصرفي والنحوي:
يتّسم البناءان الصرفي والنحوي في خطاب برّي بالقوّة والتماسك، من خلال حُسن استعمال أدوات الربط، فضلاً عن أدوات البناء الأخرى.
يعدّ هذا البناءُ نسيجاً ذا خصوصية شديدة الارتباط بخطاب برّي: فلا أدوات الربط في هذا الخطاب، تشبه أدوات الربط في أيّ خطاب آخر، ولا الجملة تشبه الجملة في نصوص أخرى… وهذا يحتّم على الباحث امتلاك ثقافة نقدية تفكيكية بنائية عالية، ليرصد أو يدرس مكوّنات هذا النسيج.
التراكيب اللغوية في خطاب برّي، موظفة في خدمة الدلالة أو التعبير عن التجربة أو الرؤية، فهي لا تردُ كيفما اتفق أو بشكل عفوي.
تدلّ العناصر اللغوية التي وظفها برّي في بناء خطابه، على مقدرة هندسية كبيرة، تفتح الآفاق واسعةً أمام دراسات تفكيكية وبنائية واعدة، انطلاقاً من تلازم النصّين: الوصفي والإنشائي، أو الإبداعي والنقدي.
على المستوى البلاغي:
اعتمد برّي الصورة الشعرية المكانية والزمانية لإعادة رسم ملامح الأشياء أو العناصر التي تشكّل بناء رؤيته، وهذا يعني استحالة فصل الصورة الشعرية عن الرؤية.
اعتماد برّي الصوَر بأنواعها المختلفة: الزمانية، المكانية، الحسّية والمعنوية والمجرّدة، ما يدل على حسٍّ فنّيّ ذوقيّ عال، يملكه برّي.
اعتمد الرموز والشيفرات الثقافية والحضارية رمز الحسين والمسيح… ليدلّل على معاناته الثقافية والوطنية والإبداعية.
استطاع برّي أن يرسم بالكلمة ألوان مشاعره: فرحاً وحزناً، همّاً واهتماماً… ما يدلّ على أنه كان يحاول أن يعيد اكتشاف الألوان والأشياء. فاللون الأبيض عند برّي، لا علاقة له باللون الأبيض عند المبدعين الآخرين، والأمر نفسه بالنسبة إلى الألوان الأخرى، وهذا يعني أن برّي وهو يشكل الصورة، كان يشكّل فلسفة الأشياء، لنجد أنفسنا أمام الفلسفة.
وقد يكون برّي هو السبّاق إلى تشكيل هذا النوع من الصوَر، وهذا يجعل خطابه رافداً من روافد الأدب السياسي.
على المستوى المعجمي:
البناء المعجمي في خطاب برّي، بناء متماسك، متين وينسجم مع الرؤية.
الكلمات التي تشكّل عناصر بناء هذا المعجم، هي الكلمات المفاتيح في رؤية برّي: المقاومة، الاحتلال، القرية، الحزن، الظلم…
التعامل مع البناء المعجمي في خطاب برّي، ينبغي أن يكون دقيقاً للغاية، لأنّ هذا البناء متداخل، متشابك ومعقّد أحياناً.
يدلّ البناء المعجمي على ثقافة عالية، يملكها برّي: فكرياً وسياسياً وعقائدياً…
تستحوذ المقاومة على جزء كبير من مفردات هذا المعجم، ما يجعل الحديث عن المعجم المقاوِم ممكناً، وما يجعل أيضاً السؤال الآتي قابلاً سؤال للطرح: هل أسّس برّي لمعجم المقاومة؟ سؤال برسم المستقبل.
هندسة المعجم… إن الدراسة المتأنّية لمعجم الخطاب عند برّي، تشير إلى أنه كان يُهندس مفرداته هندسةً، إن من حيث انتقائها، أو من حيث حجم انتشارها في نصٍّ من نصوص هذا الخطاب.
لا يدّعي هذا البحث أنه استطاع الكشف عن جميع خصائص البناء المعجمي في خطاب برّي، بل ثمة حاجة ماسةّ إلى أبحاث ودراسات مستقبلية نقدية، تستكمل ما توصّل إليه هذا البحث.
على مستوى الرؤية:
تتلوّن هذه الرؤية بألوان الفكر الجدليّ الذي يملكه برّي: فهي رؤية جدلية تارةً، وثوروية تارةً أخرى، وكربلائية مرة ثالثة.
من الصعب الإحاطة الكاملة بهذاه الرؤية، فهي واسعة، وتكاد لا تُحدّ، وما دُرِس، ما هو إلّا غيضٌ من فيض، أو هو خطوة أوّلية باتجاه دراسة هذه الرؤية.
يتّسم بناء الرؤية في خطاب برّي، بأنه دائريّ في بعض النصوص، لأنه ينتهي بما يبدأ.
هذه الرؤية ترتقي إلى مستوى القومية لأنها تستكشف آلام وآمال الشعوب العربية، ولا تنحصر في وطنٍ معيّن أو منطقة معيّنة.
هي رؤية نقدية عميقة، تحتاج إلى ربط العناصر، وأحياناً ربط العقائد، وإلّا، فمن الصعب فكّ مغاليقها.
لا تنفصل الرؤية عن عناصر البناء الأخرى: الإيقاع، الصرف والنحو، الصورة الشعرية والمعجم: إنّ دراسة كلّ عنصرٍ على حدة، هو من باب تنظيم الدراسة وتسهيلها.
شاعر وناقد أدبيّ