لماذا تجاهر «إسرائيل» بنقاط ضعفها؟
د. عصام نعمان
يثابر، بل يتبارى، قادة «إسرائيل» ومعلّقو وسائل الإعلام فيها في المجاهرة بلا توقف بنقاط ضعفها والتحديات الخطيرة التي تواجهها، وذلك بعد انكسار شوكة «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية، ولا سيما بعد هزيمتها أمام المقاومة اللبنانية حزب الله في سلسلة جبال لبنان الشرقية عرسال وفليطا وطردها منها.
أبرز المجاهرين بنقاط الضعف «الإسرائيلية» رئيس جهاز
«الموساد» يوسي كوهين ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو. كوهين قال مستنتجاً: «إنّ التطوّر المركزي في الشرق الأوسط الآن يكمن في توسّع نفوذ إيران بواسطة قواتها العسكرية والمنظمات التي تدور في فلكها والمستقرّة في سورية ولبنان والعراق واليمن».
أقوال كوهين جاءت في سياق تقرير عرضه على الوزراء خلال اجتماع الحكومة «الإسرائيلية» يوم الأحد 13 آب الحالي، وشدّد فيه أيضاً على «انّ إيران لم تتخلَّ عن مطامحها الرامية إلى أن تتحوّل دولةَ عتبةٍ نووية، وانّ اتفاقها مع الدول العظمى الستّ مجموعة 5+1 حول برنامجها النووي يزيد من عزيمتها على تحقيق هذا الهدف ويعزّز أنشطتها العدائية في المنطقة».
نتنياهو علّق في الجلسة نفسها على أقوال رئيس «الموساد»، مؤكداً أنها تثبت خطأ المعتقدات التي سبقت إبرام الاتفاق النووي مع إيران، وإنّ «إسرائيل» ليست ملزمة بهذا الاتفاق بأيّ شكل من الأشكال صحيفة «يسرائيل هيوم» 2017/8/14 .
معلّقو الصحف والقنوات التلفزيونية «الإسرائيلية» تفوّقوا على كوهين ونتنياهو في إبراز نقاط ضعف «إسرائيل» والتحديات التي تواجهها في المرحلة الراهنة، فلماذا المجاهرة بها أمام الرأي العام، بل أمام العالم أجمع؟
صحيح أنّ «إسرائيل» مجتمع سياسي مفتوح، وأنّ في وسع مسؤوليها وأهل الرأي فيها تناول جميع الموضوعات والقضايا التي تتهدّد الكيان الصهيوني، لكن ما تناوله هؤلاء بالكشف والنقد يمسّ أمنه القومي وقد يقوّض معنويات الجمهور، فما أسباب ظاهرة المجاهرة هذه؟
الحقيقة أنّ شعور «الإسرائيليين»، مسؤولين ومواطنين، بتعاظم التحديات والمخاطر المحيطة بهم ليست جديدة. فالجنرال عاموس يادلين، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» والمدير الحالي لمعهد أبحاث الأمن القومي كشف في كلمته الافتتاحية للمؤتمر السنوي للمعهد في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي أنه «لم يعد في وسع «إسرائيل» تحقيق نصر حاسم. هذا الأمر انتهى عام 1967. الحرب ستكون أطول ولن تكون حاسمة».
وزير الأمن الحالي أفيغدور ليبرمان، أقرّ خلال مؤتمر هرتسليا في شهر تموز/ يوليو الماضي بغياب الانتصارات «الإسرائيلية» منذ حرب 1967 ما عرقل التسوية الإقليمية وتطوير العلاقات مع الدول العربية. قال: قد يكون الأشدّ دلالة هو نهج المراوغة والضبابية الذي تعتمده الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة بعد حرب 2006 في إعلان الأهداف السياسية والأمنية للحروب التي تشنّها. فهي صارت تتجنّب التحديدات الواضحة والصريحة التي يمكن أن يُفهم منها السعي الى إحداث تغيير استراتيجي كهدف للحرب، مفضّلةً الصياغات العامة التي تتيح التملّص من الحكم على نتائج الحرب كالقول، مثلاً، «الحفاظ على الهدف» او «تعزيز الردع» او «إعادة الوضع إلى ما كان عليه»…
الى ماذا تؤشر هذه المجاهرة؟
لعلها تؤشر إلى جملة تحوّلات سياسية وعسكرية في المنطقة انعكست على «إسرائيل» بصورة مؤثرة منذ مطالع القرن الحالي، أبرزها خمسة:
أوّلها، إخفاق «إسرائيل» في تطويع الشعب الفلسطيني ما أدّى الى استمرار المقاومة المدنية والميدانية، بل إلى تنامي قدرات فصائلها المقاتلة، خصوصاً «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، لدرجة تمكّنت معها من تحويل قطاع غزة شوكةً جارحة في خاصرتها. أليس لافتاً نجاح قوى المقاومة في القطاع بإحباط حروب «إسرائيل» الثلاثة عليه في 2009 و 2012 و 2014؟
ثانيها، انهيار النظام العربي بمعظم فئاته الحاكمة الموالية للغرب بالتزامن مع صعود إيران وقيامها بتسليح قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، ومن ثم في سورية في إطار «محور المقاومة» الذي قامت أطرافه، بدعم عسكري ميداني من روسيا، بمشاركة دمشق حربها الدفاعية ضدّ تنظيمات الإرهاب، ما أدّى لاحقاً إلى موافقة الولايات المتحدة على مبادرة روسيا إلى إقامة «مناطق خفض التصعيد» في شمال البلاد ووسطها وجنوبها في سياق التوجّه الى حلّ سياسي للأزمة المتواصلة منذ نحو سبع سنوات.
ثالثها، تداعي المذهب العسكري «الإسرائيلي» القائم على أساس «نقل الحرب الى أرض العدو» بعد نجاح المقاومة اللبنانية في حرب 2006 بإيصال صواريخها المدمّرة الى قلب جبهة «إسرائيل» الداخلية وإحباط محاولات الجيش «الإسرائيلي» احتلال جنوب لبنان لتدمير مواقع المقاومة وقواعدها الخلفية. ذلك كله اضطر «إسرائيل» إلى تعديل استراتيجيتها العسكرية الهجومية بالانتقال الى خط الدفاع المتمثل بمباشرة بناء جدارٍ واقٍ على طول حدود فلسطين المحتلة مع لبنان، كما ببناء جدارين واقيين على طول الحدود مع قطاع غزة، واحد فوق الأرض وآخر تحتها بعمق لا يقلّ عن عشرة أمتار بقصد الحؤول دون قيام المقاومة الفلسطينية بحفر أنفاق تؤدّي إلى محيط المستعمرات «الإسرائيلية» في النقب.
رابعها، إخفاق سياسة العقوبات في حمل إيران على وقف برنامجها النووي ما أدّى إلى قيام إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بالاستعاضة عنها باتفاق نووي مع طهران وقّعته دول ست كبرى وأقرّه مجلس الأمن، وذلك بقصد مراقبة برنامجها النووي السلمي في إطار وكالة الطاقة الدولية. الاتفاق النووي أدّى إلى تحرير مليارات/ بلايين الأرصدة الإيرانية المجمّدة في أميركا وأوروبا من قيود مفروضة على تجارتها ما أفضى إلى تعزيز اقتصادها وترفيع أدائها التكنولوجي ودعم صناعة صواريخها البالستية. ذلك كله أثار خشية أميركا كما «إسرائيل» من انعكاساته لاحقاً على نفوذهما ومصالحهما في المنطقة، فقامت واشنطن بفرض عقوبات جديدة على إيران وهدّدت بضربها في حال استمرارها في تطوير صناعة الصواريخ البالستية، الأمر الذي عزز عزيمة القياديين «الإسرائيليين» المتطرّفين الدّاعين الى ضرب إيران بالتفاهم مع إدارة ترامب المتزايدة العداء لها.
خامسها، تصاعد الاختلاف في صفوف النخبة السياسية والعسكرية القائدة في «إسرائيل» حول مقتضيات الدفاع عن أمنها القومي. بعضها، بقيادة جنرالات متقاعدين، يميل إلى اعتماد «حلّ الدولتين» في إطار مقاربة سياسية مدعومة من الولايات المتحدة تكفل ضمّ التكتلات الاستيطانية الكبرى الى الكيان الصهيوني من جهة وإقامة كيان فلسطيني منزوع السلاح من جهة أخرى. البعض الآخر، بقيادة سياسيين يمينيين متطرفين، لا يرى فرصة ولا مستقبلاً لتسوية سياسية مع الفلسطينيين فيتمسّك تالياً بسياسة الاستيطان والمواجهة مع الفلسطينيين وقوى المقاومة العربية وإيران، خصوصاً بعدما أضحت إيران طرفاً فاعلاً في الحرب المحتدمة في سورية، وذلك بمشاركة مباشرة من حرسها الثوري في الحرب بالمنطقة المحاذية للحدود السورية العراقية.
في ضوء هذه التحوّلات المتصاعدة، يمكن الاستنتاج بأنّ الدافع المرجّح للمجاهرة بنقاط الضعف هو إعداد الجمهور الى تقبّل الكلفة الباهظة لتحصين الجبهة الداخلية وتحمّل خسائرها المرتقبة من جهة، ومن جهة أخرى الانخراط في مناقشة عميقة للتوافق على أفعل استراتيجية ممكنة لتعزيز الأمن القومي للكيان الصهيوني في ضوء التحديات المتكاثرة حوله وبغية ضمان المزيد من الالتزام الأميركي المالي والعسكري.
وزير سابق