بعد اندحار «داعش»: انتعاش الدعوة إلى الدولة المدنية
د. عصام نعمان
مع اندحار تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش» في حلب والموصل ودير الزور يتراجع التيار الفكري والسياسي الداعي إلى إقامة دولة إسلامية ثيوقراطية، وينتعش تيار الدعوة إلى الدولة المدنية. دعاةُ الدولة المدنية كثر، لكنّهم منقسمون مدارس وتيارات شتى. منهم ليبراليون، وإسلاميون معتدلون، وعلمانيون متطرّفون وآخرون عقلانيون.
يشكّل الموقف من الدين وعلاقته بالدولة مسألةَ الخلاف والاختلاف الرئيسة بين مختلف دعاة الدولة المدنية. فريق من هؤلاء يرفع شعار «فصل الدين عن الدولة». فريق آخر يدعو إلى «فصل الدولة عن الدين». ما الفارق بين الشعارين وأيّهما أكثر التصاقاً وبالتالي تعبيراً عن حاجات المجتمعات العربية؟
يعود تاريخ «فصل الدين عن الدولة» إلى زمن انهيار السلطنة وبالتالي الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1918-1914 وانبثاق النظام الجمهوري في تركيا على يدي مصطفى كمال أتاتورك وفريقه من الضباط المتأثرين بالغرب الأوروبي. مفكرون ودعاة إصلاحٍ عرب متأثرون بصعود الليبرالية والحركات القومية في أوروبا من جهة، ومن جهة أخرى بالماركسية
التي انتصرت بالثورة البولشيفية في روسيا، دعوا أيضاً إلى فصل الدين عن الدولة كعلاج للطائفية والمذهبية المتفشيّتين في بلدانهم.
دعاةُ فصل الدين عن الدولة من ليبراليين وقوميين وماركسيين تحوّلوا من خلال تفكيرهم وممارستهم إلى دعاة مذهبٍ جديد، لاديني بل معادٍ للدين. بدا هؤلاء، بالنسبة إلى جمهرة الناس الراتعين في الثقافة الطائفية السائدة، كأنهم يدعونهم إلى الخروج من مذاهبهم كشرط للدخول في مذهب جديد. والحال أنّ الناس ما كانوا يعانون أزمةً دينية وجدانية بل حال اجتماعية انقسامية نتيجةَ استشراء الطائفية بفعل الحكام المستعمرين وأدواتهم من السياسيين المحليين. مع ذلك تمكّن العلمانيون بشتى تياراتهم وفئاتهم من بناء تنظيمات قومية واشتراكية متماسكة عابرة للطوائف وقادرة على الفعل والتأثير وعلى الوصول إلى السلطة وتحقيق إصلاحات محدودة.
واكب صعود التيارات الليبرالية والعلمانية صعود تيار نقيض تمثّل بالإخوان المسلمين وبأحزاب أخرى إسلامية سلفية. التياران العلماني والإسلامي السلفي ظلاّ متكافئين في الانتشار إلى أن وقعت هزيمة العرب بقيام دولة «إسرائيل» العام 1948. فقد ثارت نتيجةَ ردود الفعل الغاضبة في سورية ومصر والعراق شرائح من الضباط الساخطين، وضعوا أيديهم على هياكل السلطة في بلدانهم وانتهجوا، بمقادير متفاوتة، خطاً متعرّجاً من التغيير أحدث بعض الإصلاحات إنما اتسم بكثير من التسلّط والتحكّم. مع وقوع الهزيمة الثانية النكراء العام 1967 اهتزّت الأنظمة العسكرية وأخذت تتهاوى أركانها الواحدة تلو الأخرى إلى أن تساقط معظمها مع اندلاع ما يُسمّى انتفاضات «الربيع العربي».
في هذه الأثناء، ونتيجةَ هزيمة العام 1967، انتعش التيار الإسلامي السلفي بمختلف فئاته، وكان بعضها قد تواصل مع الولايات المتحدة التي تجاوبت معه ووجدت في الإخوان المسلمين التنظيم القادر على وراثة نظام حسني مبارك المتهاوي. إلى الإخوان المسلمين، كانت ثمة حركات ودعوات سلفية أخرى متفاوتة في عدائها لليبرالية والعلمانية تنمو وتتحرك ويجد بعضها تجاوباً في بعض دول الغرب الأطلسي.
«إسرائيل» لم تكن بعيدة عن دعم بعض التنظيمات السلفية المتطرفة، مباشرةً أو مداورةً، وذلك في إطار مخططها القديم الداعي إلى تفكيك دول الجوار إلى جمهوريات موز متنازعة، مبنية على أساس قبلي أو اثني أو مذهبي وعاجزة تالياً عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متماسكة في وجهها. أبرز هذه التنظيمات السلفية وأقواها كان «داعش» الذي تمكّن منتصفَ العام 2014 من إعلان «دولة الخلافة الإسلامية» في الموصل التي امتدّت على نحو ثلث مساحة العراق وثلثي مساحة سورية.
إذ تسقط دولة الخرافة الداعشية في سورية والعراق، ينتعش مجدّداً دعاة الدولة المدنية بشتى مدارسهم وتياراتهم. صحيح أنّ سقوط «داعش» لا يعني نهاية خط الإسلام السلفي، المعتدل والمتطرف. ذلك أنّ بعض القوى والتنظيمات المنتصرة عليه ينادي أيضاً بدولة إسلامية، وبعضها الآخر بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية ؟ . غير أنه من الأكيد أنّ غالبية القوى المنتصرة على «داعش» وأمثاله لا تؤمن بشعار فصل الدين عن الدولة. هذا الواقع يضع أنصار الدولة المدنية أمام تحدٍّ ماثل يقتضي التعامل معه بكثير من الجدّية والمرونة في آن.
لعلني من أوائل الداعين الى الاستعاضة عن شعار «فصل الدين عن الدولة» بشعار، بل بحركة، فصل الدولة عن الدين. ذلك أنّ الدولة، بما هي مسرح أهل السياسة وأداتهم، هي التي تستخدم الدين في عالم العرب وتوظف رجاله وأشياخه وحتى علماءه لأغراضٍ سياسية، وليس العكس.
الدين حاجة روحية كيانية لا يمكن إلغاؤه بل لا سبيل إلى فصله عن مختلف مناحي الحياة. غير أنّ الدين كإيمان لا يتطلّب من المؤمنين بالضرورة التدخل في السياسة أو تعاطيها. صحيح أنه يمكن، وربما يجب، استلهام قيم الدين ومثله العليا في العمل العام، لكن ذلك لا يستوجب استخدام رجال الدين والعصبيات الدينية في السياسة والحكم.
إلى ذلك، فإنّ الإسلام دين وإيمان وليس مؤسسة متكاملة ومتماسكة. صحيح أنه ينطوي على مؤسسات، كالوقف مثلاً، لكنه ليس كالمسيحية مؤسسة متكاملة لها تقاليدها وأجهزتها ورجالها الاكليروس وسياستها. الكنيسة في بلدان أوروبا دخلت في منافسة بل في صراع مع الدولة في إدارة الشأن العام، لأنها كانت مؤسسة ضخمة، متكاملة، لها سياستها وجيش من العاملين من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها. لذلك كان من الطبيعي أن تتصارع الدولة في حمأة المنافسة مع الكنيسة كمؤسسة متكاملة تزاحمها على ولاء الأتباع وابتغاء المصالح والمغانم، وان تنجح في فصلها عنها، أيّ عن السياسة الممارسَة في مؤسسات وإدارات وأجهزة تُعنى بالشؤون العامة.
لا كنيسة في الإسلام، أيّ لا مؤسسة واحدة متكاملة ومتماسكة، ولا اكليروس تالياً ولا مجال لمنافسة الدولة على ولاء الأتباع والمواطنين. من هنا تستقيم الدعوة ليس إلى فصل الدين عن الدولة بل إلى فصل الدولة عن الدين بما هو إيمان وجداني يتجلّى في عقائد وطرائق مختلفة تُمكن ممارستها دونما تدخلٍ من الدولة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ فصل الدولة عن الدين، أيّ عن التدخل في شؤون الناس الخاصة وفي الامتناع عن استخدام الدين ورجاله والعصبيات الدينية في الأنشطة والقضايا السياسية، يُحقق حياد الدولة بين المذاهب الدينية ويكفل التعايش الاجتماعي في ما بينها، ولا سيما في المجتمعات التعدّدية.
أجل، مطلوب دولة مدنية لا تعتنق مذهباً دينياً معيناً، ولا تتعاطى الأمور الدينية، ولا تستخدم العصبيات الدينية والمذهبية في الشؤون العامة وفي برامجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
مطلوب دولة مبنيّة على أسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية.
وزير سابق