أردوغان يصرخ في صحراء مقفرة
د. وفيق إبراهيم
يخترق الجيش السوري مناطق إدلب السوريّة وأرياف حماة بسرعة قطار لا يتوقّف في محطات، ولا يبالي بصراخ الرئيس التركي أردوغان وحاشيته الذين يواصلون إطلاق صراخ يشبه ضجيج محترفي العمل في المزادات والبازارات، محاولين بهذا الأسلوب الإبقاء على نفوذ أنقرة في شمال سورية للمشاركة في الحلول السياسية النهائية… فهل هذا ممكن؟
تهاوى الدور التركي في المنطقة العربية من دور العامل على إعادة بناء سلطنة عثمانية جديدة، إلى مستوى الباحث عن ضمانات تحميه من المشروع الكردي المطالب بدولة له في تركيا والإقليم.
ولتجديد الطموح التركي العثماني، جرى تغليفه بواجهة الإخوان المسلمين الإيديولوجية، المتناغمة «في حينه» مع موافقات أميركية، وتبيّن أنّ هذا التأييد الأميركي للإخوان يرمي إلى تعميق الصراع التركي الإيراني السعودي المصري، واستتباعاً الفتنة السنّية الشيعية. وكان له ما أراد من خلال البوّابة التركية التي توهّمت بإمكان قيادة فدرالية تجمع دولاً عربية وإسلامية ذات بعد «إخواني» برعاية أميركية وحماية من الناتو.
ومع خسارة المشروع الثاني، نحا أردوغان إلى بناء «تنظيمات سوريّة من تركمان سورية وأذرعة الإخوان مع دعم لتنظيم القاعدة المسمّاة «النصرة» و«هيئة تحرير الشام». ولم يكتفِ الترك بهذا المستوى، فعمدوا إلى تأمين أكبر خط حدودي في العالم استعمله الإرهاب للانتقال من مئات الدول إلى سورية والعراق، برجالهم وسلاحهم وإمداداتهم ودعم الجيش التركي وأجهزته الأمنية والتركية، فكانت «داعش» العراقية الأصل التي بنت أكبر تنظيم إرهابي تشبه بـ «الخوارج» الذين ذبحوا في المراحل الأولى للإسلام ربع سكان جزيرة العرب، وأصبحت سورية عراقية أنشأت «خلافة» أصبح لها أجنحة في معظم الدول الإسلامية والعربية.
التحالف السوري الإيراني، ولاحقاً الروسي وحزب الله وتنظيمات إقليمية ووطنية، نجحت في إلحاق الهزيمة بأقوى مشروع لإعادة تقسيم «الشرق الأوسط» منذ الحرب العالمية الثانية. للدلالة على خطورة المشروع، تكفي الإشارة إلى الرعاية الأميركية الكاملة له، والتورّط الإسرائيلي التركي السعودي الأوروبي والخليجي، مع تواطؤ من كامل الدول الإسلامية والعربية. وهذا يكشف مدى أهمية المحور الذي هزم كلّ هذه القوى برعاية الدولة السورية وجيشها، وحزب الله والروس والإيرانيين.
وبلغة الأرقام، يمكن القول إنّ مدى الدولة السورية الحالي يزيد حالياً عن مئة وعشرين ألف كيلومتر مربع، مقابل نحو عشرين ألفاً قبل سنة.
أمّا باللغة السياسية، فيجوز التأكيد على أنّ الدولة السورية بحركتها العسكرية نجحت في إعادة تحرير السوريين من الإرهاب، وحطّمت الدعاية السياسية الغربية التي كانت تزعم أنّ هناك ثوّاراً يريدون إسقاط النظام… ولتأكيد ذلك، دعمتهم في الانتشار على مقربة من دمشق وفي محيطها المباشر، وفي مناطق سورية الوسطى. وما فعله الجيش السوري والحلفاء أنهم أعادوا بانتصاراتهم الفصل بين السوريين والإرهاب، وبدليل أنّ التنظيمات الإرهابية لم يعُد لها وجود إلا في مناطق حدودية قرب الجولان السوري المحتلّ من قِبل «إسرائيل» ومقابل الحدود الأردنية برعاية الجيش الهاشمي وغرفة الموك، والحدود العراقية جنوباً وشرقاً حيث تتولّى قوات أميركية وكردية حماية التنظيمات الإرهابية. وكذلك في الشمال، حيث يوفّر الجيش التركي حماية مباشرة للإرهاب، ويحتلّ منطقة سوريّة يزعم أنّها تفصل بين الأكراد في شرق سورية وغربها في عفرين، متوهّماً أنّه بهذا القطع يمنع قيام دولة كردية في سورية سرعان ما تصل إلى «مناطقه» الكردية.
والتمرّد في مناطق حدودية لا قيمة له في العلوم السياسية، لأنّه بعيد عن مراكز مؤسسات الدولة وقواها المتنوّعة، فيصبح بإمكان المركز تنظيم حملات لمكافحته على أساس أنّه خارج على القانون ويحتمي بثلاثة احتلالات، إسرائيلية وأميركية وتركية، متوكّئاً على دعم سعودي وخليجي.
ولأنّ الدولة التركية براغماتية ولديها خبرات تاريخية في فنون التقدّم والتراجع، لجأت إلى الروس لتحاول من خلالهم المحافظة على الحدّ الأدنى من «وجودها السوري» ومصالحها.. وبَنَتْ تحالفاً مع الروس والإيرانيين لديه مهمّتان: المحافظة على المصالح المقبولة وتنظيم الخلاف في الإطار السلمي.
وبذلك، تمكّنت السياسة التركية من التمايز النسبي عن الدور الأميركي الذي حاول الانقلاب عليها بواسطة الداعية فتح غولن، الذي نظّم انقلاباً فاشلاً قالت أنقرة إنّه كان مدعوماً من الأميركيين. لذلك نظّم أردوغان حركته السوريّة الجديدة مع ثلاثة أنواع من الحلفاء، آملاً إثارة قلق الأميركيين وتخوّفهم من رحيله النهائي نحو المحور الروسي الإيراني، لعلّهم بذلك يتخلّون عن المشروع الكردي في شرق سورية.. هذا المشروع الذي يخيف الدولة التركية ويهدّدها في وحدتها.
لكنّ مجريات الأعمال العسكرية وضعت تركيا بين خطرين داهمين، لم يعُد بوسعها الاختباء خلف الحلف الروسي الإيراني.. وهما نجاح الجيش السوري في الوصول إلى حدود بلاده مع لبنان والأردن والعراق، ولم يتبقَّ أمامه إلا الحدود مع تركيا، باعتبار أنّ مناطق شرق الفرات هي مسألة أميركية روسية سوريّة قد تجد حلاً سياسياً لها أو تدفع نحو حروب أكبر بمداها الإقليمي، وربما الدولي.
وميزة تركيا أنّها بالإضافة إلى تحالفها مع روسيا وإيران، حافظت على علاقات عميقة مع التنظيمات الإرهابية من «النصرة» إلى فيلق الرحمن الإخواني وأحرار الشام ومعظم التنظيمات التركمانية، ما جعل لها في شمال سورية نوعين من الوجود مباشر بالاحتلال العسكري من قِبل جيشها، وغير مباشر عبر التنظيمات الإرهابية. وفجأة وجدت أنقرة نفسها أمام حقيقة جديدة، فالجيش السوري استدار بعد الحدود الشرقية نحو الشمالية، مباشراً عمليات نوعية في منطقة إدلب محرّراً مطار أبو الضهور وعشرات القرى، وهذا يعني بداية دحر النفوذ السياسي التركي من شمال سورية. فاختلقت تركيا حكاية اعتداء الدولة السورية على مناطق خفض التوتر، وتناست أنّ هجمات «النصرة» على الجيش السوري في حماة، وتزويد أحرار الشام بطائرات الدرون من دون طيار ومحاولات عرقلة مؤتمر سوتشي، إنّما هي من الكبائر التي لا يمكن لروسيا وإيران تغطيتها، ولا يمكن لهما التسامح مع هجمات على قاعدتَي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، بالتزامن مع غارات «إسرائيلية» على أرياف دمشق في القطيفة وهجمات من الإرهاب في منطقة حرستا.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحلف السوري الإيراني الروسي استوعب الغضب التركي والهجمات العسكرية على الجيش السوري على أنّها مشروع شديد التنسيق يريد إطالة عمر الأزمة السورية، والمحافظة على الاحتلال التركي لشمال سورية. وهذا يخالف أهداف التحالف الثلاثي القائم على أساس أنّ أقصى الهمّ التركي هو منع قيام دولة كردية في سورية.
ويتبيّن اليوم أنّهم يريدون بعض الإضافات، وفي مقدمها استمرار سيطرتهم على نحو أربعة آلاف كيلو متر مربع بين شرق سورية وغربها بذريعة الخطر الكردي، ومحاولات تحسين الأوضاع السياسية للإخوان المسلمين في الحلول النهائية.
وتدلّ المعطيات على أنّ أنقرة لن تستطيع فعل شيء كبير لعرقلة اندفاعة الجيش السوري نحو تحرير إدلب، المدعومة بتذخير إيراني وروسي كبير لن يقبل بالمساومة على الرغم من التهديد التركي بعرقلة مؤتمر سوتشي.
وبذلك، يجد الأتراك أنفسهم في وضعية الذي خسر أدواره في سورية والعراق، بوّابتي أنقرة إلى العالم العربي، ولم يستطع لجم المشروع الكردي الكامن داخل العباءة الأميركية، ولن يتمكّن من التمايز الفعلي عن المشروع الأميركي «الإسرائيلي».
فها هي واشنطن تسجّل تراجعاً كبيراً في سياساتها الشرق أوسطية، الأمر الذي يؤكد أنّ تركيا بدورها عائدة إلى حدودها بأدوار محدودة غير عابرة لا بشكل عسكري، ولا بنظرية الإيديولوجيا المتنقلة عبر الإخوان المسلمين وعمائم العثمانيين.