الحداثة… وفوبيا اليتم الحضاريّ
رشيد المومني
لا تعود مأساة التصنيفات الحضارية، التي تخضع لها شعوب العالم الثالث، فقط إلى النوايا المبيّتة لمراكز الحداثة الغربية، بل الأنكى من ذلك، أنها تسانَد حتى من داخل القبيلة التي يفترض فيها تصدّيها لهذه التصنيفات، بما ملكته مداركها من نقد. وما نعنيه بالتصنيفات الحضارية، ذلك المنطق الذي يتم بموجبه توزيع ما ستؤديه الشعوب على المسرح العالمي من أدوار، التي سيكون من الصعب الخروج بتصور واضح حول دلالتها ووظائفها، وهو فعلاً منطق محيّر، بخاصة أنه يتعلق بقضايا على قدر كبير من الحساسية الثقافية، كأن تحظى على سبيل المثال لا الحصر خصوصية ثقافية ما، باعتراف الأريحية الأنثروبولوجية، من دون أن ترقى بالمقابل، إلى مستوى دمجها حضارياً بالمشهد الكوني. فهل مردّ ذلك إلى حضور منهجيتين مضادتين لقراءة كِتابِ العالم، بما هو أحداث ووقائع ومنجزات من قبل المنظار ذاته؟ حيث تبدو الأولى مُنْصفة، ومنتصرة لما يسمى بخصوصية الشعوب المتواجدة خارج المدارات الرسمية، فيما تبدو الرؤية الثانية إقصائية، لا شأن لها بأساطير هذه الخصوصيات وأسرارها، لأن المركزية الحداثية غير مستعدّة للتنازل في إصدارها أحكامَها عن المعايير المستنبطة من حقول تقدمها التكنولوجي والاقتصادي، ضمن مناخ متحرّر من كل القيود الاجتماعية والأخلاقية.
وهو ما يدعونا إلى القول بضرورة إعادة شعوب الهامش النظر في ملامح الصورة الملتقطة لها من قِبل الآخر، كي تدرك في نهاية المطاف، أن ما تحظى به من احتفاء، هو مجرد تمويه مسرف في مكره البروتوكولي، بهدف الإبقاء عليها حيث هي، مراوحة مكانها، وأن علاقة المراكز بها، لا تتجاوز حدود اعتبارها حواشي باهتة، لا يستقيم لها وزن أمام ما تتوفر عليها المراكز ذاتها من قوة ونفوذ، حيث يندرج اهتمامها بها، ضمن افتتانها العام والظرفي، بما يحفل به العالم من ظواهر عجيبة وغريبة، كما يندرج ضمن كَلَفِها بالفرجة السمعية البصرية والعقلية أيضاً، بمعنى أن مزاج المراكز، يميل من حين إلى آخر، إلى نسيان إيقاعاته الاجتماعية المغرقة في التكنولوجيا المتقدّمة، كما أن عقلانيتها المنصهرة تماماً في الزمن الحداثي، الذي هو زمن غربي بامتياز، تظل بحاجة دائمة إلى الاستئناس بالجذور التقليدية، المجسدة في الهوامش المتخلفة، فقط بغاية تجديد طاقتها، بخاصّة أن بدائية هذه الهوامش تذكّرها بأزمنتها البائدة، كما تعمّق لديها الإحساس بالتقدّم، حيث تستمد من هذه الاستعادة، مناعتها التي تتحصن بها من أي انتكاس حضاري محتمل. بهذا المعنى، تصبح الهوامش بمثابة مرايا يكتشف فيها الغرب صورته القديمة، وقد تخلص من واقعيتها الفجة، ليتجاوزها إلى أقصى التخوم الافتراضية، وبالتالي فإن مغازلته لصورتنا، لا تعدو أن تكون تعبيراً عن الحنين الماكر إلى الأزمنة البائدة، الذي لا يتجاوز حدود المتعة العابرة، من دون أن يلامس حدود القناعة، أو يدنو من مضاربها.
أيضاً، تظلّ هوامشنا ضرورية لاشتغال مختبراته العلمية والسوسيولوجية، علماً أنها في الأصل مختبرات طبيعية مفتوحة، على كل مبادرة ذات نوايا طيبة أو عدوانية، شأنها في ذلك، شأن الكثير من جغرافيات الهوامش المتوزعة على ربوع العالم، التي يتعامل معها الغرب بوصفها محميات جديرة بالصيانة والمراقبة الدائمة، بدعوى حفظ النوع الحيواني والنباتي والبشري، مع استعداده الدائم لإبادتها تماماً إن اقتضت الضرورة، في حالة تعارض مصالحه مع مصالحها، وعرقلتها مشاريعه التوسعية، كما أنه مهيأ لأن يتحول بقدرة قادر، إلى إله رحيم بالطير والشجر والبشر والحجر، كي تظل هذه المحميات السياحية والمخبرية، محتفظة ببكارتها، تحت لافتة احترام الخصوصية الثقافية، والحفاظ على التنوع الثقافي، فالغرب ليس في صالحه أن ترتقي الهوامش/الضواحي العالمية إلى مكانته الحضارية، باعتبار أن حضور الحداثة، لا يتحقق إلا على ضوء حضورنا نحن «كشعوب متخلفة»، وبعبارة صريحة وخالية من محسناتها البلاغية، نشير إلى أن تقدم الغرب، يقاس على ضوء تخلّفنا، حيث تنحصر دلالة الحداثة في التقدم التكنولوجي الصناعي، وهي الدلالة المباشرة التي تعلن عن حضورها المكشوف في التصنيفات الحضارية، وبموازاة احتدام الصراعات السياسية بين الشمال والجنوب، إذ يتبدّد تماماً مفهوم الخصوصية الثقافية، في دلالته الحضارية، كما يختفي مفهوم الهوية التاريخية بمجموع ما تشمله من مكونات ذات صلة قريبة أو بعيدة بالخصوصية. إن الجانب البراغماتي برنينه المعدني، هو الذي يظل حاضراً بقوة، كي يُقصي جميع الخطابات المجاملاتية، والمداهنة التي تتملق خيرات الهوامش.
في ظل هذا الرعب الحداثي، الممارس على النخب الثقافية، وتحسباً من وقوعها في شراك اليتم الحضاري، نجدها تقع باستمرار فريسة هاجس مغادرة خيام الخصوصية، التي طالما احتمت به من عنف المد الغربي، بالتنكر لها جملة وتفصيلا، طمَعاً في ضمان انتمائها إلى المنتدى الحداثي. ومن المؤكد أن هوس الإقبال على المغادرة، الذي هو مؤشر على انسحاب اضطراري من جبهة الممانعة، يوحي بوقوع حالة انحباس معرفي وثقافي تحت هذه الخيام، كما يوحي باستعداد مجاني لتقديم آيات الولاء اللامشروط لموزعي صكوك الحداثة، وبالنظر إلى تعدد أمشاج الخصوصية، فإن صيغة المغادرة تتعدد هي أيضاً، حيث يتعذر الحديث عن مغادرة مشتركة وعامة، لأن الأمر يتعلق بتباين مستويات تمثل الخصوصية، سواء بالنسبة للجماعات، أو الأفراد، بالنظر إلى كونها حياة شاملة ومتكاملة، من حيث انسجامها وتناقضاتها، وليست مجرد فضاء يمكن التردد عليه ومغادرته بشكل آلي عفوي وتلقائي.
إنها حياة متضمنة لكل معادلات الموت والميلاد، إلى جانب معادلات القتل والإحياء. وحيث تحضر هذه المعادلات يحضر هاجس حفر الحدود، وتكليم العقاب، وكذلك إبرام المواثيق وفسخ التعاقدات، ضمن اختيارات ينسخ بعضها بعضاً، حيث تصبح فكرة اقتحام فضاء الخصوصية، شبيهة بالتورط في غابة ليلية، ستكون فيها مطالباً بالإنصات إلى أصوات كائناتها الملتبسة، وتوَقُّعِ ما يمكن أن تباغتك به من احتمالات. إنها نصوص، أمكنة وأزمنة، مصائر وأقدار، لذلك فمغادرتك الاضطرارية لخصوصيتك، لا علاقة لها بمغادرة الآخر لخصوصيته، باعتبار أن صيغة تواجدك في محيطك، لا علاقة له بصيغة تواجد الآخر في محيطه، فثمة فرق بين الدعوة إلى المغادرة وفق شروط الرؤية النقدية، وبين تلك الموجهة بشروطها العامة والكونية، أملاً في التخلص من أزمنة التخلف والقيم المتقادمة، وهو تصور موجه بحلم الانتماء إلى مختبرات العالم التكنولوجية، من دون حضور أيّ حسّ تأملي وعقلاني.
لكن هل يعني ذلك، أن الكائن مهدد بمطاردة الجذور؟ سواء كان منتمياً إلى الهوامش الفائضة عن حاجة الكون، أو منتمياً إلى الضوء الحارق المشع من أفران المراكز. وبتعبير آخر، هل هو مقيد جينِيّاً بأعباء الخصوصية، ومسكون بأرواحها؟ وهل يتعلق أمر التواجد في فضاءات خصوصية ظلامية، أو متنورة فقط بضربة نرْدٍ ، أي بمحض صدفة غير مدبرة؟ الشيء الذي يجعل التراتبية الحضارية، تلقي سلفاً بظلالها، ضداً على أي اختيار ذاتي، وبالتالي هل يعني ذلك أن المشهد الكوني لا يمكن أن يكون إلا مشهد تباينات وتناقضات ذات طبيعة تراتبية ثابتة ومسكوكة؟ وهو أمر تُفنده الوقائع التاريخية القديمة والحديثة، باعتبار أن اللحظات المستنيرة، ليست حكراً على مكان معيّن، أو زمان معيّن، كما أن لحظات الظلام، ليست هي أيضاً مكروهاً تصاب به أمكنة وأزمنة دون أخرى، فكل مكان مهيأ لاحتواء مختلف المفارقات الحضارية الثقافية والاجتماعية، ورياح التخلف، يمكن أن تغطي بدويها فضاءات الجنوب، وفضاءات الشمال على السواء، تبعاً لحضورِ شروطٍ ، وغياب أخرى.
شاعر وكاتب من المغرب