انتكاسات رئيسية في مشروع العدوان الأميركي الأخير!
خالد العبّود
أمين سرّ مجلس الشعب السوري
لقد أضحى واضحاً أنّ الحاصل للمنطقة العربية لم يكن «ربيعاً عربياً»، وأضحى واضحاً أكثر أنّ المنطقة كانت تُعدّ لها خرائط «جيوسياسية» جديدة، لها علاقة بالسيطرة عليها من جديد، وإعادة إدارتها وفق أسس مختلفة، تحول دون التكلفة الهائلة التي أخذت تستنزف خزائن الدول الاستعمارية الأساسية، وبالتالي كان لا بدّ من إعادة إنتاج خريطة إقليمية جديدة، تفيد أخيراً في تجاوز ملاحظات جمّة على طبيعة العلاقات القائمة بين هذه المنطقة وبين القوى التي تسيطر على مقدراتها وطاقاتها.
لم يكن في ذهن الإدارة الأميركية قبل أربع من السنوات أن تتقاسم الأدوار مع أحد على إدارة المنطقة، ولم يكن في حساباتها إمكانية المقايضة على هذا الدور، أو على جزء منه، أو حتى على ملفّ أو عنوان من عناوينه، فقد سجلت دخولاً عالياً وحاسماً في بعض الرؤوس والعناوين التي كانت تراها أساسية، وهي لم تقبل من أيّ مكوّن إقليمي لم ينخرط معها في عدوانها الأساسي أن يناقشها في إمكانية وجود رؤية موحّدة أو مشتركة لمواجهة عنوان بعينه، أو حتى إبداء الرأي في عنوان آخر.
لقد كان الدخول الأميركي عالي السخونة، وقائماً على رئيسيات لها علاقة بإعادة توزيع أو إنتاج المنطقة، الأمر الذي استدعى منها شطب كامل خريطة التوزع الإقليمي لعناصر القوة، كون أنّ هناك عناصر قوة كانت واضحة في خريطة كانت متبلورة وناشئة أساساً، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت تمتلك جزءاً من الفضاء الإقليمي، كما أنّ الجمهورية العربية السورية كانت تساهم في جزء آخر منه، خصوصاً لجهة تعطيل إمكانية السيطرة الكلية للإدارة الأميركية على هذا الفضاء، إضافة إلى أنّ هذا التحالف الذي لم تستطع أن تروّضه الإدارة الأميركية لمصلحتها، ونعني به التحالف الذي أطلقت عليه «محور الشر» على مستوى الإقليم، أضحى يتقاسم معها رئيسيات إقليمية جعلها مدفوعة لرفع فاتورة القدرة على حماية تلك المصالح، بمعنى أنّها رأت في هذا التحالف متّكأ دولياً ساهم في دفع قوى أخرى للدخول معها في مواجهة باردة مكلفة جداً في عملية إدارتها أو سيطرتها على المنطقة.
إذن… لقد نشأ الصراع، أو قام العدوان الأميركي على المنطقة، من أجل هدف محدّد، واضح وجلي، رئيسيته الانفراد المطلق بالهيمنة على الإقليم، الهيمنة التي ستؤدّي إلى إسقاط استراتيجية الآخرين الذين سيجعلون من إمكانية أو محاولات سيطرة الولايات المتحدة على هذا الإقليم فخّاً لاستنزاف قدراتها وطاقاتها أخيراً، وهو ما كنّا قد تحدّثنا عنه قبل سنوات عدة، حيث كانت متنبّهة له الإدارات الأميركية المتعاقبة!
من هنا نرى أنّ الاصطفاف الروسي الصيني إلى جانب الموقف والدور السوري في مواجهة هذا العدوان لم يكن بعيداً عن هذا الفهم لحقيقة العدوان وطبيعته، كون أنّ فهم الإدارة الأميركية للهيمنة المطلقة على الإقليم، من خلال تكلفة تكاد تكون معدومة، لا يمكن أن تكون أو تقوم بوجود مكوّنات إقليمية أو عناصر إقليمية يمكنها العودة لتتقاسم معها عناوين محددّة على مستوى الإقليم، وكان ذلك واضحاً خلال فصول طويلة من صيرورة المواجهة وطبيعة مفردات الصراع ذاته.
إنّ المحاولات المستمرة للإدارة الأميركية من أجل إبعاد الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن جملة الملفات التي تمّ طرحها، والتي كانت تتعلق «بالمسألة السورية»، كانت جميعها ذات دلالة واضحة وعميقة على جوهر العدوان الأميركي، وحقيقة الصراع الذي تخوضه، والمحاولات المستمرة من قبل الجمهورية الإسلامية على وجودها وحضورها العميقين في هذه الملفات تأكيد الدلالة على جوهر الصراع وأبعاده.
لم تكن تتطلع الإدارة الأميركية لوجود أو بقاء إرادات سياسية إقليمية يمكنها أن تؤثر أخيراً على معادلة حضورها ووجودها في المنطقة، لقد عزمت الرأي والموقف على أنّ وجود وبقاء الولايات المتحدة لم يعد يتحمّل إمكانية وجود استنزاف في قدراتها الاقتصادية، خصوصاً وهي على أكتاف جملة «وعكات» اقتصادية وغير اقتصادية، يمكنها إذا لم تُعَالج أن تؤدّي إلى اضطرابات هائلة في جسد الإمبراطورية الأميركية، وبالتالي في عمر بقائها ووجودها.
لقد استعملت الإدارة الأميركية جملة نظريات عسكرية وسياسية وأمنية في عدوانها من أجل أهدافها الرئيسية على المنطقة، وبالمقابل نرى أنّ القوى الإقليمية الحليفة التي وقفت في وجهها، استعملت نظريات هامة جداً عسكرية وسياسية وأمنية في سبيل إفشال العدوان وإلحاق الهزيمة به، إذ أنّ تحالف «إفشال العدوان» حال دون تقدم الولايات المتحدة، وأفسد لها قائمة سيناريوات اتبعتها في عدوانها، من العنوان الرئيسي لمقولة «الثورة السورية»، وبأنّ «الشعب يريد»، إلى عناوين أخيرة لها علاقة بالوصول بسورية إلى مفهوم الدولة الفاشلة والدولة العاجزة، مروراً بكلّ العناوين ذات المنشأ الديني والطائفي والعشائري!
ومن هنا كان جليّاً وواضحاً الانزياح الكبير الذي عبّر عن صعود نتائج جديدة للصراع وللعدوان ذاته، من خلال التحوّلات الكبيرة والواسعة التي كانت تصيب مراحل العدوان والأدبيات التي كانت تستعمل في كلّ مرحلة من مراحله، وصولاً إلى انخراط شبه كليّ لتحالف «إفشال العدوان» في كلّ ملفات الصراع ورؤوسه على مستوى الإقليم، إذ أنّ الإدارة الأميركية أدركت جيّداً أنّه لم يكن بمقدورها الذهاب إلى أهدافها، فلبنان معزول عن إرادتها الكلية، وفلسطين ألحقت مقاومتها هزيمة نكراء بإمكانية إلحاقها بمشروع «التسوية العربية» مع كيان الاحتلال، والعراق تقدم كي يكون صاحب موقع جديد على خريطة الرفض الأميركي، واليمن الذي أشعل قاعدة شبه جزيرة العرب، وأمّن أهمّ معبر مائي لتحالف «إفشال العدوان»، والبحرين الذي ما زال مستنفراً ومؤهّلاً لإدخال الخليج في مرحلة جديدة من مراحل «الثورات النظيفة»، في حين أنّ «الملف النووي الإيراني» ما زال يستعمل كأهمّ «ملف مشاغلة» عرفتها الدبلوماسية الحديثة.
إذن… نعتقد أنّ المشهد أضحى مكشوفاً، وأنّ الأهداف الرئيسية للعدوان تبدّت وأضحت واضحة جداً، وأنّه لم يعد بمقدور الإدارة الأميركية إلا البحث عن منافذ خروج أو تسلل خلفية للخروج من مأزق مواجهتها الأخير، ولو أنّ ظاهر ما تقوم به تلك الإدارة لا يبدو كذلك!