عصر ما بعد الحداثة
أسامة العرب
لا تشكّل العولمة مشكلة اقتصادية فقط، ولكنها تثير إشكالات عديدة تتعلّق بالاقتصاد والسياسة والاجتماع، بل تمتدّ إلى علماء التاريخ والفلسفة. وهذا أمر طبيعي بفعل التطور الحضاري والمادي والتقني، ولو اختلفت مفاهيم العولمة ومضامينها من قرن لآخر. فعندما نتحدّث عن تطوّر وسائل الإنتاج والتكنولوجيا من الطبيعي أن تزول الحدود والفوارق والاختلافات، وتدفع المجتمعات البشرية إلى عصر ما بعد الحداثة. ولا شك في أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة، أدّيا إلى تغيير التركيبة العالمية من دون وقوع حروب كبرى، كما كان يحصل في السابق، حيث أتى الرئيس كلينتون بعد بوش الأب بشعار «إنه الاقتصاد أيّها الغبي». وتوجه كلينتون إلى الصين كحليف استراتيجي آنذاك، معتبراً أنّ التورّط معها قد يؤدّي إلى كوارث، فيما التشارك الاقتصادي معها سوف يؤدّي إلى ابتعادها عن التسلح المكلف وعدولها عن الأهداف التوسعية على الصعيد الدولي. وقد اقترح زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» على الإدارة الأميركية عدم السماح بقيام تحالف أوراسي بين الصين وروسيا، وإعطاء الصين دوراً اقتصادياً مهماً بهدف إرضاء غرورها. وقد اقترح معهد راند للدراسات على كلينتون احتواء الصين لعدم الاصطدام معها مستقبلاً. أما روسيا فكانت رؤية إدارة كلينتون وجوب مساعدتها عند الحاجة، ودعمها مادياً. ولكن عندما وصل بوش الإبن إلى السلطة نظر إلى العالم بمنظار الحرب الباردة، مطلقاً شعار نحن والعالم، أو بالأحرى شعار نحن أولاً، مازجاً بين الاستراتيجية والتكتيك، وساعياً إلى توسيع الحلف الأطلسي لتطويق الحلفاء، متناسياً تعقيدات الطبيعة البشرية وعلاقة السياسة بالجغرافيا، وبذلك كان السبب الرئيسي لزعزعة العلاقة مع الصين وروسيا.
لكن رغم ذلك، فقد أدّت العولمة واقتصاد السوق إلى الانتقال بالعالم من الأحادية القطبية إلى زمن التعدّدية القطبية، حيث بدا التجاذب واضحاً بين المراكز الحضارية، وهو ما شكل فائدة على المجتمع الإنساني، باعتبار أنّ التعددية الثقافية عنصر يساهم إلى حدّ بعيد في تحقيق العدالة الاجتماعية بين مختلف المكوّنات البشرية. إلا أنّ الإدارات الأميركية المتلاحقة لم تناسبها هذه التحوّلات، فبعدما ظهرت مجموعة «بريكس»، بدأت الولايات المتحدة من خلال مواقفها المتعجرفة تسعى لإعادة النظام العالمي إلى سابق عهده، حيث أطلق مفكروها العديد من المفاهيم الخاطئة كنهاية التاريخ التي بشّر بها فرنسيس فوكوياما، وصراع الحضارات الذي دعا إليه صموئيل هنتنغتون. وهذه المفاهيم المفبركة ترمي بحقيقتها إلى منع النماذج الثقافية المختلفة من التلاقي بهدف تكريس النفوذ الأميركي، لا سيما أنها تعتبر النموذج الثقافي الأميركي النموذج الغربي الوحيد، وكأنه لا توجد تباينات في الرأي في ما بينها وبين النموذج الأوروبي، أو في ما بين النماذج الأوروبية المختلفة عن بعضها البعض. ومن ثم ظهرت العديد من المواقف الدولية المناهضة للعولمة الثقافية، وتمّ الترويج لمفاهيم غريبة لم نسمع عنها من قبل، كقبائل القرن الحادي والعشرين، والذي يرى هنتنغتون بأنها تمثل القبيلة الصينية والقبيلة الهندية والقبيلة اليابانية والقبيلة الأميركية اللاتينية والقبيلة الأفريقية الجنوبية. ولذلك انتقد أنصار التيار الواقعي مثل بريجنسكي هذه المفاهيم التي تشكل محاولة انقلاب جذرية على مفهوم العولمة الثقافية، بهدف الحفاظ على الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية، معتبراً أنه من الأنسب السعي لاحتواء روسيا والصين من جديد، عوضاً عن الدخول في متاهات سياسية معهما لا تحمد عقباها. أما المفكر الفرنسي دومينيك وولون فقد كان نقده بناءً أكثر، حيث اعتبر أنّ العولمة الثقافية مهمة، ولكن يجب أن تسير في اتجاه تشجيع التعايش الثقافي، وأن تبرز الهويات المختلفة في بعدها الإنساني ضمن إطار مشروع مشترك.
يبقى أن نذكر بأنّ محاولة أميركا الانقلاب على العولمة بدأت منذ عهد الرئيس بوش الابن، وانتقلت إلى الرؤساء اللاحقين، مع شعارات أميركا أولاً، ومؤخراً السياسات الحمائية الاقتصادية الجديدة. في حين أنّ أنصار التيار الواقعي والذين اعتمدوا على تعاليم هالفورد ماكيندر ونيكولاس سبايكمن، ما زالوا يحذرون من مغبة الانقلاب على العولمة، لأنّ من شأن ذلك أن يُعيد الألق إلى منطقة أوراسيا، التي إنْ سيطر عليها الروس والصين سيطروا على المعمورة بأسرها، نظراً لاحتوائها على احتياط نفطي هائل.
وبالتالي، على الولايات المتحدة أن تفهم أنّ النظام الدولي لم يعُد أحادياً، وإنما متعدّد الأقطاب، فممّا لا شك فيه أنّ في العالم حضارات متعدّدة وثقافات مختلفة، فتاريخ العالم في بعض وجوهه يتّسم بالتنوّع والتداخل مثل أشكال العلاقة بين هذه الحضارات والثقافات. وكلّ واحدة من هذه الحضارات هي حضارة وثقافة في التاريخ وفي العالم، وهي بذلك تنتمي إلى مجال زماني هو التاريخ البشري، وإلى مجال مكاني هو العالم. ولذلك لا بدّ من دمقرطة العولمة وأنسنة الثقافات كي تبرز الهويات المختلفة في بُعدها الإنساني، ونذكر على سبيل المثال وجوب تعديل تركيبة مجلس الأمن ليضمّ دولاً جديدة كالهند واستراليا واليابان وغيرها، ووجوب العمل المشترك على القضاء على الأمراض والمجاعة، والحفاظ على البيئة، ووجوب العمل المشترك أيضاً على تقليص الفوارق الحضارية بين الدول، وبحيث لا تعود هنالك دول عالم ثالث وثانٍ وأول، وتعمّ الفائدة في أرجاء المعمورة كلّها.