لماذا التصعيد الإضافي ضد حزب الله الآن؟
د. وفيق إبراهيم
حزب الله مستهدَف بشكل دائم من المحور الأميركي ـ الخليجي ـ الإسرائيلي، لانخراطه في المقاومات المقاتلة في لبنان وسورية والعراق واليمن في وجه النفوذ الأميركي المتلوّن بأشكال متعدّدة، منها المباشر ومنها غير المباشر كالإسرائيلي والخليجي.
وهذه المرّة وحدها كافية للتسديد الدائم عليه من الأطراف الغربية والإسرائيلية وغلمانها العرب.
لكن صدور عقوبات أميركية ـ خليجية متزامنة على الجناحين العسكري والسياسي في الحزب توحي بانبثاق عناصر إضافية على «القديم المقاوم» للحزب، دفعت بالمتضررين من جهادية الحزب لإصدار عقوبات، ترمي إلى الإساءة إلى أدواره المقاومة في مواضيع مستجدّة يبدو أنّ نجاح الحزب فيها قد يُنهي القسم الأكبر من الفتنة الأميركية ـ الخليجية في المنطقة.
فلا أحد يصدّق أنّ هذه العقوبات تريد حرمان سيد المقاومة حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم من التسوّق في نيويورك أو المشاركة في سباق النوق في الرياض.. أو المساهمة في رقصة «العرضة» عند أبناء زايد.
العقوبات إذاً، هي استمرار لعقوبات قديمة، إنما بشكل أوسع وأخطر وتتعلق بمواضيع جديدة. إنها بدون أدنى شك نتائج الانتخابات اللبنانية الأخيرة، وتداعيات نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لجهة البند الأول، فهناك إجماع على أنّ الحزب وحلفاءه نجحوا في تحقيق معدل نجاح عالٍ في الانتخابات يسمح لهم بالمشاركة في إنتاج سلطات دستورية «عقولة» بإمكانها تأدية دور محايد لمصلحة لبنان وكل.. لبنان. فالحزب يعرف أنّ نجاحه الانتخابي لن يؤمن له مساهمة من الدولة في أعمال المقاومات.. قد يطمح إلى تعزيز الدور العسكري اللبناني في وجه الغطرسة الإسرائيلية وتعزيز العلاقات اللبنانية ـ السورية، على المستوى الاقتصادي وتنظيم مسألة النازحين بما يخدم البلدين.. ولأن الحزب ذو خبرة في هذا المجال، فإنه يعرف أنّ هذا هو الحدّ الأقصى الممكن بانتزاعه من دولة لبنانية لم تخرج منذ 1990 ولو لمرة واحدة عن الانصياع للنفوذ الأميركي ـ السعودي.. لكنها لم تكن تذهب بعيداً تحت ضغط موازنات القوى التي يُمسك بها حزب الله منذ تحريره لجنوب لبنان في 2000 وإلحاقه هزيمة مدوّية بـ«إسرائيل» في 2006، ودوره الكبير في سورية والإقليم منذ 2012. إلا أنّه لم يستثمر صعود أدواره المتنوعة في السلطات الدستورية في لبنان مكتفياً بدور «المراقب الدقيق» و«المشارك بعفة». أيّ يرى ما يجري بدقة ويغضّ الطرف.. للمقبل من الأيام.
تأتي هذه الانتخابات الداخلية «الديموقراطية» التي لا شائبة قانونية فيها، لتثير ذعر أولياء الأمور في واشنطن والرياض.. فكيف يمكنهم القبول والإذعان لتقارب سوري ـ لبناني حتى ولو كان غير سياسي؟.. وكيف يرتضون بالعودة التدريجية للنازحين الذين يجري الاحتفاظ بهم في بلاد الإيواء والتشرّد وإفقارهم إلى الحدود القصوى ليلبوا حاجتين: حاجة التنظيمات الإرهابية إلى سوريين فقراء يقبلون بمئتي دولار شهرياً ويشاركون في القتال في ميادين سورية؟.. ألا يتّمُ في هذه الأيام إعادة تجنيد النازحين في شمال سورية في تنظيمات مقرّبة من تركيا والسعودية بمئتي دولار شهرياً.. أما الحاجة الثانية فهي لإبقاء النازحين في مناطق التشرّد، لاستعمالهم كورقة ضغط في أيّ حلول سياسية مرتقبة أو في أيّ انتخابات تفرضها حلول سياسية وشيكة وذلك لإسقاط الحكم الحالي في سورية. هذا يُظهر بوضوح مدى الذعر الغربي الخليجي الإسرائيلي من مسألة الانتخابات.. التي تبدأ بتصحيح اقتصادي وشبه اعتدال سياسي، وقد تنحو نحو تشديد المجابهة للأطماع الإسرائيلية البرية والبحرية وتوسيع إطار التنسيق مع سورية باتجاه إعادة تنشيط الخط البري الاقتصادي ـ لبنان ـ سورية ـ الأردن ولبنان سورية العراق ـ أليست هذه هي خطوط «المعجزة الاقتصادية»، التي استند إليها النظام الاقتصادي اللبناني سامحاً بواسطتها توسيع إطار الطبقة الوسطى.. هذه الطبقة التي تقهقرت نتيجة الأزمة السورية وسياسات الحريرية السياسية منذ 1992.
لكن هذا الأمر ليس كافياً بمفرده. ويصادف أنه تقاطع مع تداعيات لم تكن واشنطن وغلمانها العرب و«إسرائيل» يتوقعونها: إنها بالطبع مسألة نقل السفارة الأميركية إلى القدس بما تعنيه من الأبعاد الدينية والوطنية والقومية والأممية. وهي عناصر لم ترعب ترامب عندما اتخذ قراره بالنقل مع الإصرار على أنّ القدس هي العاصمة التاريخية والأبدية لـ«إسرائيل».. تُرى عن أيّ تاريخ استقى هذا الأرعن ترامب معلوماته الهزيلة.. ألا يعرف أنّ فلسطين بكاملها وقدسها هي أرض كنعان.. إنه لا يريد أن يعرف على طريقة المستعمرين الدائمة.. ألم يقل إبن خلدون إنّ التاريخ يكتبه المنتصر.. لكن حزب الله وأبناء فلسطين يحاولون اليوم إلغاء نظرية الراحل العظيم إبن خلدون مع الاعتذار منه، ليثبتوا أنّ التاريخ يكتبه أصحاب الحقوق الذين يكافحون من أجلها.
ونكتشف هنا أنّ «غزة العنود» وتقاطعاتها مع حزب الله، سجلا ردود فعل بطولية من القطاع إلى قلعة الشقيف في لبنان، اجتاحت فضاءات العالمين العربي والإسلامي، لتعيد تأكيد أنّ فلسطين العربية هي للمسيحيين والمسلمين والفلسطينيين والسوريين والعرب. وهي أيضاً «أمانة أممية» غير قابلة للاحتواء الإسرائيلي ـ الأميركي ـ الخليجي.
وفي سبيل البحث عن مخارج للخليج المتورّط، جرى الاتفاق على إصدار بيانات خجولة تلت صمتاً خليجياً وعربياً متواطئاً لأشهر عدة، تستنكر إنما بأدب شديد، نقل السفارة إلى القدس، ومن دون أيّ ردود فعل عملية، الاكتفاء بالشجب.. والتحوّل لمهاجمة حزب الله الإرهابي حسب زعمهم بجناحيه العسكري والسياسي مع إيقاع عقوبات شديدة على قياداته السياسية والعسكرية والاقتصادية. وكاد المراقب أنّ يقتنع بأن هذا الحزب هو الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وإلا فما العلاقة بين بيانات خليجية تشجب بلطف نقل سفارة، وتتحوّل لإيقاع أشدّ عقوبات تلقاه حزب الله منذ تأسيسه.
لذلك تأتي هذه العقوبات لتعاود شحن العالم العربي في وجه العدو الذي اختارته واشنطن وهو الحلف السوري ـ الإيراني وحزب الله والمقاومات في المنطقة.. والهدف واضح. وهو منع إعادة إحياء قضية فلسطين بما تعنيه من سحقها للفتنة السنية ـ الشيعية التي اعتمدها الحلف الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي منذ الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 بهدف تفتيت المشرق العربي وتدمير إيران وربما تدمير.. تركيا والسعودية، نفسهما.
يتبيّن بالاستنتاج أنّ أشكال إجهاض الغضب الفلسطيني ومحاولات كبح تحوّله لثورة دائمة، هي التي تقلق الحلف الأميركي، كما يثير جنونها التلاقي الفلسطيني مع حزب الله وإيران.. فهذا ممنوع، لأنه يقضي على كل البناءات الأميركية المتكئة على إثارة المذهبية والطائفية والعرقية.
هذا هو الصراع المتجدد اليوم بأشكال حديثة، ويبدو أنّ هزيمة الأميركيين وأعوانهم المحليين لم تعُدْ بعيدة.. لكنها تحتاج إلى تحريك أكبر لفلسطينيي الأردن والضفة ولبنان، مع استنفار كامل لخطوط المقاومة في العالم العربي، خصوصاً مصر.. أليس الفجرُ بقريب باعتبار أنّ «إسرائيل» هي العدو وليس حزب الله.