جرحا الجيش والمدينة والأصالة في وجه «الخلافة»
جورج كعدي
ثمّة كلامان يمكن قولهما في حوادث طرابلس الأخيرة، واحد في الوجدان، وآخر في السياسة.
أمّا في الوجدان فمأساة كبيرة للجيش ولأهل طرابلس ما حصل، وحرام وألف حرام أن يسقط هذا العدد من الشهداء من جيش الوطن الذي يؤدّي واجبه العسكريّ والوطنيّ حفظاً للأمن والاستقرار ومحاربةً للإرهاب، وقد شاهدنا جميعاً المآتم – الأعراس التي أقيمت لهم في مختلف المناطق، ومن سائر البيئات الاجتماعيّة والدينيّة، لجنود وضبّاط شبّان سقطوا في المعارك الأخيرة ضدّ المسلّحين الإرهابيين ففجع ذووهم وأحباؤهم ورفاقهم بموتهم الباكر في ريعان العمر، واحتشدوا لوداعهم وحمل نعوشهم وسط الدموع والصراخ وانهيار الآباء والأمّهات والشقيقات والأشقاء… ولِمَ هذا الألم كلّه؟ هل لحفنة من المجرمين الجهلة معتنقي العصبيّة الدينيّة لا الدين الرحيم، والمذهبيّة المقيتة لا المذهب القويم، والتكفيريّة المتخلّفة لا العقيدة المتسامحة التي تقبل الآخر؟! هل لمجموعة من المضلّلين الحاقدين والمرضى نفسيّاً بالفطرة والغريزة، أو من المغرّر بهم والمتلاعَب بعقولهم والمجنّدين في خدمة مشروع سياسيّ «جهاديّ» ليس من الجهاد الأصيل في شيء يُنعت بـ«السلفيّ» ليس فيه شيء من شيم السلف الصالح وأخلاقه وسموّه . وفي ما حدث لجيش الوطن البطل والشجاع ظلم ما بعده ظلم، وفجيعة ما بعدها فجيعة، خاصّة وتحديداً لأنّ هؤلاء الشهداء الشبّان الأبطال لم يستشهدوا ضدّ العدوّ «الإسرائيليّ»، أي ضدّ صهاينة الخارج، بل ضدّ صهاينة الداخل الذين حذّر سعاده منهم، وهم الأخطر على الوطن والأمّة بما لا يُقاس إذ يقبعون مثل الأفاعي في الأوكار، ولا يخرجون إلاّ للقتل والتفجير والإرهاب ونشر الخراب والفوضى، تحرّكهم أيدي التآمر الصهيو ـ أميركيّ والخليجيّ السعوديّ أو القطريّ أو العثمانيّ التركيّ. وهذه حالة جدّ خطيرة، أليمة ومؤسفة.
كذلك أهل طرابلس مفجوعون بأرزاقهم المدمّرة، أو بأبرياء يسقطون وسط نيران المعارك، فمعظم سكّان هذه المدينة الحبيبة الجميلة، السخيّة والمتنوّعة والمتسامحة تاريخيّاً، هم من الشعب الأصيل، المسالم، الذي لا يروم من دنياه إلاّ تحصيل رزقه والحفاظ على تجارته أو حرفته، والعيش في سلام خارج أجواء التعصّب والانخراط في حروب الآخرين ومشاريعهم الإقليميّة. الاستثناءات الضالّة في طرابلس قليلة، فالغالبيّة أصيلة الجذور والانتماء، عميقة الإيمان والممارسة الدينيّة الصحيحة. لذا ظلم أهل طرابلس بدورهم، مثلما ظلم الجيش، إذ أصيبوا ببيوتهم ومحالّهم ومؤسّساتهم وأرزاقهم. ورغم ذلك، انتصرت بهم الأصالة على «دولة الخلافة» فآزروا الجيش واستنجدوا به لينتشر في أنحاء المدينة كافّة ويبسط سلطته ويثبّت الأمن والاستقرار، وهذا ما نرجو حصوله ونعتقد أنّه حصل، ونأمل لمرّة أخيرة وإلى الأبد.
في السياسة، أودّ توجيه الرسائل الآتية:
– رجائي الحارّ والصادق إلى أبناء الطائفة السنّية الكريمة، في طرابلس والشمال تحديداً، وفي لبنان عامّة، أن يتخلّوا نهائيّاً عن شعار «مظلوميّة أهل السنّة» لأنه شعار غير حقيقيّ وغير واقعيّ وغير صادق، فلا أحد في لبنان يظلم أهل السنّة، ولا أحد يفعل ذلك أو ينوي فعله أو يفكّر فيه أو حتى يجرؤ عليه، والسنّة في لبنان على ما يتضّح للقاصي والداني هم اليوم رأس السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في مجلس الوزراء مجتمعاً وفي رئاسته، وهم في وزارات «سياديّة» حسّاسة وأمنيّة وقضائيّة فاعلة وزارتا الداخليّة والعدل للمثال لا الحصر ، والسنّة رقم صعب في المعادلة الميثاقيّة والدستوريّة وإن الطائفيّة والوطنيّة، ولا أحد يستطيع تجاوز هذا الرقم الصعب أو إلغاءه أو تحجيمه، وخير شاهد على ذلك قوّة «تيّار المستقبل» ومَنْ يمثّل. لذا لا حاجة إلى التباكي ورفع الشعار غير الصحيح وغير الواقعيّ حول «مظلوميّة» أهل السنّة.
– تمنٍّ خاص على أهل طرابلس الأعزّاء، من الطائفة السنّية الكريمة، ألاّ يرفعوا الشعار المشابه لـ«مظلوميّة السنّة» ومفاده «مظلوميّة طرابلس السنّية» وإهمال الدولة لها، فالإهمال الإنمائيّ وسواه يطول المناطق اللبنانيّة كافّة، ومن طرف السلطة التي يشكّل السنّة الجزء الأساسيّ منها تاريخيّاً رئاسة الوزراء خاصة في زمن الرئيس رفيق الحريري الذي امتلك السلطة الاقتصاديّة والإنمائيّة والإداريّة الكاملة ونمّى بعض بيروت وبعض صيدا وأهمل «طرابلس السنّية» وليس أحد سواه من أهملها! فليُحكَ إذن عن ظلم بعض «أهل السنّة» لبعضهم الآخر، لا عن ظلم الآخرين لهم، وهذه حقيقة لا تقبل جدالاً.
– نصيحة لجماعة «المستقبل» بعدم تبنّي قضيّة خالد الضاهر وخطابه المذهبيّ التحريضيّ البغيض ضدّ الجيش وفئات كبرى أساسيّة من مكوّنات الشعب اللبنانيّ، أو يكون هذا التيّار محترف لعبة توزيع أدوار وحمائم وصقور وازدواجيّة وجه ولسان، ويكون مؤيّداً ضمناً للخيارات السياسيّة والمذهبيّة التكفيريّة التي يعتنقها الضاهر، ومستنكراً لها في الظاهر فحسب لا في الباطن والجوهر.
– مناشدة لقيادة الجيش اللبناني ألاّ تستأذن بعد اليوم أيّ جهة سياسيّة لدى دفاع الجيش عن نفسه وحضوره ومهمّاته الوطنيّة والشرعيّة ضدّ الإرهابيين الذين يهاجمون مواقعه ويوقعون شهداء وجرحى في صفوفه، وأن يحسم الموقف دوماً بقرار ذاتيّ، مثلما فعل أخيراً في طرابلس والشمال، من غير إذن وسماح أو مساومات، وأن يضرب الإرهاب والتكفير والمذهبيّة المقيتة بيد من حديد، وألاّ يتوانى عن ملاحقة المجرمين المسؤولين عن سقوط شهدائه وجرحاه لإلقاء القبض عليهم وإلقائهم في السجون ومحاكمتهم.
– طلب أخير إلى الدولة، الممثّلة اليوم بسلطتها التنفيذيّة القائمة وعلى رأسها السيّد تمّام سلام، رئيس الوزراء ابن البيت السنّي العريق بامتياز ، أن تهتمّ فوراً بإنماء طرابلس، وخاصة بأحيائها مثل باب التبانة وسواه، لأنّ هذا الإنماء هو من حقّ طرابلس أولاً، ولأنّ من شأنه لو تحقّق أن يساهم، ثانياً، في تجفيف منابع الإرهاب عبر خلق فرص الحياة الكريمة لأهل تلك المناطق المحرومة، بل المنكوبة، في المدينة، وتحديداً لشبّانها فاقدي الهدف والأمل والعمل والرجاء فيرتمون من يأسهم وفراغ حياتهم في أحضان منظّمات التكفير والإرهاب والتعصّب الأعمى التي تغرقهم بالمال وتغسل أدمغتهم بدعاوى «الجهاد» الباطلة وتعدهم بحوريّات الجنّة!