هل يسمحُ «الخارجُ» بتشكيل حكومة لبنان؟
د. وفيق إبراهيم
الدور الأساسي للخارج في تشكيل حكومة لبنان ليس جديداً. ولم يعد مشيناً بالنسبة لطبقة سياسية داخلية متنوّعة المذاهب تحكم البلاد بألوان مختلفة وأزياء تتلاءم مع عصرها بدءاً «من زمن الطرابيش» التي لم تكن تعرف إلا الانحناء أمام «الأجنبي» وصولاً إلى الأزياء الفرنسية الفاخرة، التي تيَسِّرُ الانبطاح أمام الخارج بمختلف الأوضاع.
لماذا استمرار عقدة التشكيل الحكومي؟
بالمنطق التبسيطي، يمكن الجزم بأن الخارج الإقليمي «السعودي» والغربي «الأميركي» لا يقبل في هذا الظرف بالذات بحكومة لبنانية لها هدف حصري: منع الانهيار الاقتصادي وإدارة الاستقرار الداخلي. مؤثراً بالحدّ الممكن، تشكيل حكومة فيها غالبية من التيارات السياسية الموالية للمحاور الأميركية ـ السعودية. بهدف عرقلة حزب الله في حركتيه «الإثنتين»: الاستمرار في مجابهة الإرهاب في الميدان السوري، والعودة التدريجية إلى ممارسة دور حكومي أساسي يُنقذُ البلاد مما آلت إليه من انهيار عام بعد ستة وعشرين عاماً من سيطرة الحريرية السياسية على مفاصل الحكم في البلاد.
وتدعمهُ في «حركتيه»: نتائج انتخابات داخلية ذات طابع مذهبي، دستوري أدّت إلى إمساكه مع حليفته حركة أمل بثلاثين نائباً. باستثناء تحالفاته مع القوى السياسية الأخرى. بما يجعله قادراً على دعم تشكيل حكومي، يقوم على أساس استبعاد المحور السعودي.
لكن «الميثاقية» التي تدفع نحو تمثيل الأطراف الأقوى في مذاهبها تنسق إمكان تطبيق الممارسة الديموقراطية المرتكزة على المفهوم الأكثري. فأيّ رئيس حكومة له القدرة على تشكيلها ويؤمن لها الأكثرية العددية في المجلس النيابي يُفترض أنّ يكون بوسعه الإعلان عنها وهو قادر دستورياً.. لكنها المحاصصة المذهبية التي تستند إلى مواثيق وأعراف.. تعطّل العمل الدستوري الصحيح، فتتشكل حكومة فيها كامل التنوّع اللبناني الطائفي.. الأمر الذي يُعطّل العمل الديموقراطي ومفهوم المراقبة وتعميم الفساد، وتعطيل الإنماء.. فمنْ يراقبُ مَن في حكومة فيها الشيء ونقيضُه..؟
الواضح حتى الآن حصول انسجام على إبعاد النواب السّنة الناجحين بمنافسات حادة مع الحريرية السياسية، عن «التوزير»، باتفاق سرّي بين حزب المستقبل السعودي، والتيار الوطني الحرّ حزب رئيس الجمهورية، ولم يتّضح ما هو المقابل الممنوح.. لكن له روائح تصله بدور سعودي في الضغط المرتقب «لعقلنة» الطلبات الاستيزارية لحزب القوات الذي يترأسه جعجع مع خفضها إلى حد مقبول.
ويبدو أنّ التيار الوطني الحرّ يراهنُ على دور سعودي في الضغط على الوزير جنبلاط ليتنازل عن مقعد وزاري من حصة الدروز للنائب طلال ارسلان.
فهل الدور الإقليمي السعودي جاهز للضغط على حلفائه من أجل توفير الحصة الوزارية الأكبر لتيار جبران باسيل؟ ولماذا يفعل ذلك وهو العارف بوجود علاقات استراتيجية الطابع بين العهد وحزب الله؟
هنا ينبثقُ الموقف الغربي ذو الرأسين، الأميركي والفرنسي الذي يتحمل مسؤولية إطلاق الوعود للتواقين للوصول إلى منصب رئيس جمهورية مقبل.. وبغياب المبادئ العميقة، تصبح «البراجماتية» منهجاً مقبولاً للعمل السياسي يحكم لبنان منذ 1948.
هناك إذاً، اتجاه سعودي وفرنسي أميركي جديد للتقريب بين أحزاب الوطني الحر والمستقبل والاشتراكي والقوات، له مهمة عزل حزب الله ضمن حصته الوزارية المتوقّعة بثلاثة مقاعد.. مقابل إعطاء تنازلات للعونيين من حصص القوات والاشتراكي وإبعاد السّنة المستقلين.. وهذه لعبة متمكّنة، لأنّها تلبّي حاجة الخارج لتطويع حركتي حزب الله في الداخل ضرب الفساد وتأمين الاستقرار الاقتصادي والخارج الدور المقاتل للإرهاب .
بالمقابل، تنبثقُ أسئلة متتابعة حول إمكان إنجاز هذا الانقلاب التاريخي، ومدى قدرته على تأمين هيمنة سعودية على لبنان، لم تتوفر حتى في أكثر مراحل النفوذ الحريري في لبنان إمساكاً بالبلاد.
قد تزيد شهوة بعض أطراف الوطني الحر أهمية العروض المطروحة عليهم ومستقبليتها بالنسبة للطامحين منهم، لكن القوى الوازنة والراجحة في حركتها الداخلية تسارع إلى لجمهم وتحذّر من أنّ رئاسات الجمهورية في لبنان ليس عملاً تستأثر به قوى خارجية حصرية. فيتجهون فوراً إلى محاولات الاستفادة من كل قوى الداخل الإقليمية المتنافسة بينها، بشكل تبدو فيه وكأنها فئة مستقلة يحتاجها الجميع في لعبة الصراع على الإمساك بالحكومة في لبنان، ولا تتساءل هذه «الفئات المستقلة» عن أسباب انهمار العروض عليها في هذا الوقت بالذات.
الإجابة أيضاً في الإقليم.. وتتعلق بنجاح الدولة السورية في حروبها في الجنوب السوري، أي المفصل الأساسي في المؤامرة على سورية التي بدأت من درعا عاصمة حوران، وها هي تكاد تنتهي منها أيضاً. للإشارة فقط إلى مدى أهمية هذه المنطقة يكفي القول إنها تجسّد التقاء سورية مع «جولانها المحتل من الكيان الإسرائيلي الغاصب وحدودها مع كل من الأردن والعراق.. وهذه أهميات استراتيجية تؤدي إلى ضبط بعض أنحاء حدود لبنان الغربية غير المضبوطة تماماً.. وتكون سورية بذلك استعادت كامل حدودها باستثناء الجزء التركي في الشمال، قيد البحث حالياً.
لذلك يجب الربط المباشر بين المحاولات الخارجية الجديدة مع التيار الحر وبين الهزائم المتلاحقة التي مُنيت القوى المتطرفة المدعومة من «إسرائيل» والغرب والخليج.. ولا يجب بالتالي البناء عليها، لأن حلقة الانتصارات السورية تتوالى نحو إعادة تكوين سورية الإقليمية ذات الدور الإيجابي.. فهل تنسى إحدى القوى الداخلية مدى علاقة لبنان بهذا الدور الإقليمي لسورية، على المستوى الاقتصادي والسياسي بالحد الأدنى؟
وكيف يُمكن بناء معادلة داخلية، تقوم على أساس تطويق أقوى قوة لبنانية لها نفوذها في كامل الإقليم، وهو حزب الله. فبدلاً من الاستفادة من أهمية هذه القوة في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع سورية والعراق وإيران مع لبنان يحاول «بعض الداخل» عرقلتها.. لحساب الخارج. وهل ينسى هؤلاء أنّ إعادة إعمار سورية والعراق.. وإيران أيضاً تستطيع إنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي وقد تشكّل مردوداً أعلى من «الغاز» المختلف عليه حتى الآن بين «تحاصص الداخل» والأدوار الأميركية المشبوهة التي تعمل لمصلحة «إسرائيل»؟
فهل يُصاب «مجانين السلطة» بالعمى السياسي ويُقدمون على نصب تحالفات لن تؤدي إلا إلى تفجيرهم سياسياً؟ باعتبار أنّ تجاوز مرتكزات القوة الحقيقية في الداخل أصبح مستحيلاً حتى بمشاريع اجتياحات إسرائيلية. يتبيّن بالاستنتاج أنّ الخارج الذي يعرف كل هذه المعطيات، لا يريد تشكيل حكومة في لبنان، لأنه لو أراد فعلياً لمّا حاول شبك تحالفات معادية لحزب الله وحلفائه. وهو الخبير بالأحجام الفعلية القوى اللبنانية.
أما انتظار قمة هلسنكي والمراهنة عليها، فشبيهة، بترقب معارك الجنوب السوري، لأنّها لن تؤدي إلا إلى الإقرار بالدور السياسي الكبير لحلف المقاومة في لبنان والمنطقة، على أساس احترام التوازنات المرتبطة بتأمين مناخات صحية لازدهار الدول.