لكي يكون الاستقلال أكثر من احتفال
معن بشور
في قراءة نقدية هادئة، لا بد من الإقرار أن غالبية اللبنانيين قد وقعوا في تعاطيهم مع استقلال بلدهم أسرى نظرتين خاطئتين، تبدوان متناقضتين في المظهر، ولكنهما متناغمتان في جوهرهما.
أول هاتين النظرتين غلو في الاستخفاف بهذا الاستقلال لدرجة اعتباره منحة «بريطانية» على حساب المصالح الفرنسية، بل تصوير الاعتراف به نوعاً من «الخيانة» للتطلعات الوحدوية الأوسع، وهو غلو أدى إلى ابتعاد متدّرج عن فهم خصوصيات لبنانية كان يمكن للعاملين في سبيل وحدة أكبر أن يحولوها إلى مصدر إغناء عميق لحياة المنطقة بأسرها، حتى لا نقول الإقليم كله.
بل أدى هذا الابتعاد المتدرج، مع عوامل أخرى، إلى تهميش متصاعد لدور هؤلاء الوحدويين في صياغة الحاضر اللبناني لتتقدم مكانهم صيغ وأطر أكثر التصاقاً بالحساسيات الفاعلة داخل كل فئة بل واستغلالها إلى أبعد الحدود.
أما النظرة الثانية فهي غلو في التغني بمفردات متصلة بالاستقلال الوطني حاولت أن تجعل منه «سوراً واقياً» بوجه أي محاولات لتكامل لبنان مع عمقه القومي بل ووضعه أحياناً بوجه تطلعات أشقائه مما أدى إلى تصوير الاستقلال وكأنه انعزال عن العرب أو انفصال عنهم أو حتى شكل من أشكال العداء لهم.
هذه النظرة تجاهلت أن الاستقلال نفسه، ناهيك عن دستور لبنان الكبير 1926، والكيان الوطني ذاته، ما كان أن يقوم لولا تكامل قومي بين الحركة الاستقلالية العربية، وتحديداً الحركة الوطنية السورية، وبين الحركة الاستقلالية اللبنانية، بدءاً من الثورة السورية الكبرى التي كانت سبباً رئيسياً وراء إرغام الانتداب الفرنسي على إعلان دستور 1926، بكل مثالبه، وصولاً إلى دور القيادات الوطنية السورية والعربية في إقناع الوحدويين في لبنان بالقبول بالصيغة اللبنانية القائمة منذ استقلال 1943.
المشكلة الرئيسية التي تواجه النظرتين، بل تجعلهما أحياناً وجهين لمعضلة واحدة تغذي الواحدة منهما الأخرى، وتتناتشان طوائف ومذاهب ومناطق، وحتى قضايا، فيتحول معهما الاستقلال الوطني إلى خيمة تمارس تحتها كل جماعة لبنانية استقلالها «الفئوي»، طائفياً أم مذهبياً، وتقيم متاريس متبادلة لا يسقط متراس من هنا، إلا لتقوم متاريس مكانه.
هذه المشكلة الرئيسية تكمن في أن النظرتين غير واقعيتين في فهمهما للبنان ومكوناته، ترتطمان بحقائق التاريخ والجغرافيا، كما بحقائق ديموغرافية واستراتيجية، اقتصادية واجتماعية، فلا نظرية إلحاق لبنان الأصغر بأشقائه وقضاياهم، لا سيّما الأقرب إليه كسورية وفلسطين استطاعت أن تحقق لهذا البلد أمناً واستقراراً وتقدماً وتنمية، ونهوضاً وإشعاعاً، ولا حتى حرية وديمقراطية ولا حتى العداء والتحريض ضد أشقائه وقضاياهم، خصوصاً الأقرب في سورية وفلسطين نجحا في حماية لبنان وصون وحدته وتأمين استقراره.
وجاءت أحداث السنوات الأخيرة، لا سيما مع تطور الصراع في سورية وعليها، لتثبت عمق الارتباط بين مصير لبنان ومصير أشقائه وقضاياهم، وأن الرياح العاتية التي تهب على أي بلد شقيق لا بد وأن تصل إليه وتعبث فيه دماراً وخراباً، ليكتشف من ظن أن بإمكانه عزل لبنان عن عمقه القومي انه أسير وهم تاريخي واستراتيجي خطير، تماماً كما ليكتشف من ظن أن مجرد الإقرار بترابط مصير لبنان بمصير أمته كافٍ لحل مشكلات لبنان أنه موغل في الخطأ، وأحياناً في الخطيئة لأن لهذا الترابط والتكامل جملة شروط وظروف إذا لم تتوافر فإن ترجمة الترابط تتحول إلى كارثة على لبنان وعلى الفكرة الصحيحة التي تؤكد تكامله مع عمقه القومي.
وفي هذا المجال لا نضيف جديداً إذا أكدنا أن العروبة ليست إلحاق قطر صغير بقطر كبير أو التحاقاً، بل هي تكامل وطنيات وتفاعل وتواصل بينها على قواعد الحوار والحرية، والمشاركة والتكافؤ.
كما لا نضيف كثيراً إذا قلنا إن شعاراً من نوع «لبنان أولاً» يصبح، حين يضعه البعض شعاراً للانقلاب على انتماء لبنان القومي ومصالحه المترابطة مع مصالح أشقائه، الطريق الأقصر والأسرع ليصبح «لبنان أخيراً» أي في آخر الاهتمامات بنظر «الآخرين»، وحتى ينظر أبناؤه الذين يتوزعون على جانبي الانقسامات المحيطة بدلاً من أن يسهموا من خلال تجربتهم الغنية في إغناء ثقافة القبول بالآخر، واحترام الآخر، والعيش المشترك مع الآخر.
ولكن، كي لا نبدو متشائمين كثيراً، فان علينا أن نقّر ونعترف ببعد ثالث للحياة اللبنانية بعد الاستقلال، وهو بُعد المقاومة التي اندلعت في مثل هذه الأيام قبل 71 عاماً إضرابات وتظاهرات في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا وباقي المناطق، وارتفعت علماً وطنياً في ساحة النجمة وبيت الاستقلال في بشامون، وتألقت في قلعة راشيا صموداً مع القادة الأسرى لدى جحافل «الانتداب»، واستمرت قتالاً في المالكية حيث استشهد النقيب في الجيش اللبناني محمد زغيب، وامتدت مقاومة وصموداً شعبياً في أواخر الستينات والسبعينات دفاعاً عن سيادة الوطن من العرقوب حتى الناقورة، وتبلورت مقاومة وطنية وإسلامية في مطلع الثمانينات وطيلة التسعينات بدءاً من أسوار بيروت وشوارعها إلى تخوم فلسطين المحتلة فدحرت المحتل، وحررت الأرض، وباتت اليوم رادعاً استراتيجياً لمطامع العدو وعدوانيته يحسب لها العدو ألف حساب.
ومن شأن هذه التكاملية بين الاستقلال كذكرى والمقاومة كفعل تحصين للاستقلال، وبين الوطنية كحاضن لخصوصياته والعروبة كسياج لكل وطن، وبين الهوية الوطنية كإطار جامع وبين المواطنة كضمان لتجاوز كل تمييز أو امتياز لفئة أو جماعة أو أفراد، وبين الهم الوطني وعنوانه السيادة، والهم الاجتماعي وعنوانه التنمية والعدالة، أن تحول الاستقلال من ذكرى إلى عيد، ومن مناسبة احتفالية يبدو أننا نكاد نفقدها هي الأخرى إلى محطة زاخرة بالمعاني الوطنية. بل أن تتحول التجربة في لبنان إلى مدرسة لكل المهمومين والمهتمين بالمشكلات المتفجرة في بلادهم.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية