في القضايا الكبيرة لا يمكنك أن تقف في أعلى الشجرة
الياس عشّي
يوماً بعد آخر يتأكّد لي أنّ المسألة السورية برمّتها، ما كان لها أن تسقط في تجربة الخيارات، لولا سياسة النأي بالنفس التي قضت على ما بقي من مشاعر قومية، ولولا رماديّة الموقف وفلسفة اللاانتماء اللتان دمّرتا الشعور بالاعتزاز في أن تكون وطنياً مخلصاً، ومواطناً شريفاً.
في القضايا المصيرية ـ والإعلان عن دولة إسلامية في الشام والعراق هي قضية مصيرية بامتياز ـ لا يمكنك أن تقف في أعلى الشجرة مكتفياً بالتفرّج، مثلما فعل خادم الأمير وفي التفاصيل «أنّ أحد الأمراء خرج للصيد مع خادم له، وبينما هما يجتازان إحدى الغابات، إذا بنمر يعترض طريقهما. صعد الخادم لتوّه إلى رأس شجرة ولبث هناك. أما الأمير فلاقى النمر بقلب من صخر، وقتله، فيما كان خادمه يرفض النزول عن الشجرة مكتفياً بمراقبة ما يحدث. فقال له الأمير: يا جبان، إني سأقتلك، لماذا لم تنزل عن الشجرة حين طلبت منك ذلك؟ فأجاب الخادم: يا مولاي، رأيت أسداً يصارع نمراً، ومن واجبات الكلاب أن تقف على الحياد. فأشفق عليه الأمير وعفا عنه».
في القضايا الوطنية الكبيرة لا مكان لمثل هذا الخادم في صفوفنا، فالحياد يتحوّل حتماً إلى خيانة، أو إلى خوف، أو إلى كليهما معاً، ويدمّر صاحبهما! لنتذكّر كيف اجتاح هتلر بلجيكا «المحايدة» ليصل إلى باريس. ولنتذكر أن من الشروط الأساس التي وضعها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لقبول الدول في هيئة الأمم المتحدة، أن تعلن الحرب على دول المحور، ولو بالشكل، في إشارة بالغة الوضوح إلى أن لا حياد في لعبة الأمم. أسود أو أبيض، ولا مكان للرمادية… تلك هي الحقيقة.
سورية اليوم هي قضيّة مصيرية. وحدها تدافع عن قيم ساهمت، قبل سبعة آلاف عام، في وضع الحروف الأولى لتهجئتها، وتصديرها إلى العالم.
سورية تكتب سيرتها اليوم بأقلام فاقعة اللون، أشبه ما تكون بدم أدونيس حارس المواسم على مرّ الفصول. وتكتبها بأقلامنا نحن الذين آمنا بأن «الحياة وقفة عزّ واحدة فقط».
ما معنى أن تكون حيادياً في وطن اجتاحه البرابرة، وعاثوا فيه فساداً، فكفّروا، وذبحوا، ونطعوا، ودمّروا، وغزوا، وسبوا، وجعلوا من بعض المدن السورية سوقاً للنخاسة، وأخرى للبغاء، وثالثة لمحاكم ميدانية لا مكان فيها للشرائع السماوية.
حتّى على الصعيد الفردي ما كان للأنبياء والرسل والمصلحين أن ينجحوا لولا خروجهم على المتعارف عليه، ومجاهرتهم بما آمنوا به، وماتوا في سبيله. الرمادية بالنسبة إليهم هي صفر لا أكثر، والمواقف الشجاعة هي التي غيّرت العالم، وستغيّره كلما دعت الحاجة.