مسرح الدمى.. مفاصل تاريخيّة عدّة وتراجع أهميته مع تطوّر المفاهيم والمبادئ الأساسيّة الحديثة في عملية التلقين والتربية
تقرير ـ رمزا صادق
الدمى هي نسيج من الطفولة والبراءة، صورة مكوّنة من تفاصيل ترافق الأطفال في أعمارهم، تجتمع بينهما أبسط الأعمال وكل العادات. الدمية ترافق الطفل أثناء تناوله الطعام، عند دخوله إلى السرير ليلاً، يعتادها، يصدقها، يحبّها ـ ويقتنع منها، من هنا جاءت أهميّة مسرح الدمى في تأدية دور مكمّلٍ لبثّ الرسائل الخلاقة والتربويّة وحتى الدينيّة في كل حقبة مرّت على تاريخ البشرية، وتطورت مع تطور المفاهيم.
دمية القفاز، دمية العصي، دمية الماريونيت، دمية خيال الظل، أم دمية الممثل… جميعها أشكال من مسرح الدمى، تصبّ في الخدمة التعبيريّة المسرحيّة لكن باختلاف الأداة.
تطوّرت مفاهيم الفنون من حيث الشكل والقولبة، لكن رسالة الفنّ ككل ورسالة المسرح خصوصاً تعدّ واحدة من أهم الطرائق التي أنتجت فكراً اجتماعياً وسادت عليها مفاهيم العدالة الاجتماعية والحرية، لقد كان مسرح الدمى الأداة الأكثر تأثيراً وشعبيةً عند مختلف شعوب العالم لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخيال الفرد ومداركه، وتغوص في تفاصيل حياته الواقعية التجريبية، فيشعر أن هذا الفنّ هو إنتاج قريب لذهنيّته، بل يمثله حقيقة.
لذا، كان اهتمام معظم الشعوب القديمة يصبّ في تقديم مسرح الدمى، لأنه وسيلة تأثير شعبويّة متعارف عليها، بل وكان لها فارق كبير في تأمين أرضية شعبية واسعة لفئة ما، أو حاكم ما، أو رجال الدين حتى.
في هذا التقرير، سنتطرّق إلى نشأة مسرح الدمى وأهميته على بعض الأصعدة الحياتيّة والغاية من هذا الفنّ.
منذ تاريخ الإنسان الأول، ارتبط مسرح الدمى بالحياة اليومية للإنسان، فكان أداة لإنماء فكره وتطويره ذهنياً حتى ينتج أعمالاً قريبة لواقعه، أو تعكسه. من هنا، فـ»إن الدمى قد عرفت منذ ما يقرب من ثمانية آلاف سنة دلّت على ذلك الدمى الطينية غالباً غير المفخورة وتمثل بعض الحيوانات وكذلك تمثال الأم فقد اتخذ الإنسان الأول من خياله عالماً واسعاً أدرك من خلاله العلاقة الوثيقة التي تربطه بالدمية 1 .
«لم يتمكن المؤرخون والباحثون من تحديد حقبة تاريخية قاطعة، للتأسيس لمسرح الدمى، لكنهم أجمعوا على أن الدمى، المفردة الأساسية لهذا المسرح، ابتكار إنساني ضارب في التاريخ. أما ما ظهر من نتائج لتلك البحوث والدراسات فإنها تفصح عن ارتباطه بأقدم الحضارات الإنسانية: حضارة النيل وحضارة الرافدين» 2 .
عرف العديد من الشعوب مسرح الدمى منها أهل العراق، وقدماء المصريين والفينيقيون والآشوريون والهنود واليابانيون القدماء وعرفته الحضارات اليونانية. كما استغل الكهنة مسرح الدمى كثيراُ في عملية التأثير حيث وظّفوا الدمى لنشر التعاليم الدينية للوصول إلى مبتغاهم مستغلين بذلك عنصر «الانبهار»، فقد «كانت تستحوذ على نفوس المشاهدين وعقولهم وتجعلهم أكثر حساسية للتأثر بالعرض» 3 .
و»في بعض البلدان كالصين نشأ مسرح الدمى على هيئة تماثيل ولدت في عهود رافقت بدايات حضارة الصين، وفي الهند ظهر مسرح الدمى بهيئة مسرح شعبي حقيقي، حيث انتقل مسرح الدمى من خلال الحروب والتجارة كذلك في اليابان وروما القديمة. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر اتخذ مسرح الدمى شكلاً جديداً، حيث انتقل إلى بلاطات الملوك وأصبح مسرح الدمى ذكراً في مؤلفات ميغل وسرفانتيس وشكسبير» 4 .
كما جرى إنشاء مسرح الدمى في القرن السادس عشر في كل من باريس ولندن وفي إيطاليا في مطلع القرن الثامن عشر. «كما قدّم مسرح الدمى شوامخ الأوبرا العالمية التي ألّفها فاجنر، مونسارت، بوتشيني، باسكاني، فردي زادفنباخ وغيرهم» 5 .
تغيّر مع تطور المفاهيم والحياة الاجتماعية الغرض من مسرح الدمى باختلاف العصور التي مرّت على الشعوب، لكن تأثير هذا المسرح وأهميته يكمن في جوانب عدّة:
تأثير مسرح الدمى على البنية التربوية: لقد أجمعت مسارح الدمى باختلاف أنواعها على عملية التأثير على القيم الإنسانية للطفل بشكل متفاوت، فمسرح الدمى القفازية وخيال الظلّ والماريونيت. فقد أكدت الدمى القفازية على تربية الطفل على اللطافة، والاحترام والعطاء، وخيال الظل على تمكين الطفل من إنشاء علاقات اجتماعية قائمة على الشعور بالجماعة من أجل الوصول إلى حالة الاستقرار النفسي. وانقسمت الآراء بين الباحثين حول المفاهيم الاجتماعية التي تكسبها للطفل، فالبعض اعتبرها تشجّع الطفل على التصرفات السلبية كالتمرّد والبعض الآخر يرى أنها أنتجت تأثيراً فاعلاً في دعم مفهوم العطاء.
تأثير مسرح الدمى على البنية الأخلاقية: «التي تساعده على كيفية الصواب والخطأ، ومفهومي الثواب والعقاب، إلى المفاهيم الأخلاقية الأساسية الصحيحة» 6 .
تأثير مسرح الدمى على البنية الشخصية: أظهرت بعض الدراسات التحليلية أن مسارح الدمى تساعد الطفل على التكيف مع المحيط، وحب الآخرين، والابتعاد عن الغرور والاعتراف بالأخطاء التي تُعتبر من سمات النجاح.
تأثير مسرح الدمى على البنية الثقافية: «اهتمت مسارح الدمى إلى حدّ كبير بالبناء المعرفي للطفل من حيث التعلم والثقافة والذكاء، فإن مسرح الدمى اهتمّ بالرصد المعرفي لبناء الطفل ثقافياً واعتبار الطفل إذا امتلك قاعدة معرفية، فإنه بتقدّم سنه سوف يطور هذه القاعدة حتى تصبح تخلق انساناً ذا خبرة ثقافية عالية» 7 .
تأثير مسرح الدمى على البنية الترويحية: بحيث يحتاج الطفل للهو واللعب لشدّة طاقته وحيويته، لذا فإن نصوص مسارح الدمى لم تغفل عن ذلك بل سعت إلى جذب انتباه الأطفال وإسعادهم من خلال ممارسة الألعاب مع الدمى، أو الغناء مع الدمى، من شأنه تحسين النمط النفسي للطفل وتأمين الاستقرار الداخلي لديه.
بذلك، نكون قد أنتجنا صورة عامّة عن نشأة مسرح الدمى وأهميته، الذي لا يمكن الإغفال عن دوره في التطور الفكري والحضاري للشعوب الذي كان حينها أكثر الفنون تأثيراً وشعبية… أمّا اليوم أين هو المسرح عموماً ومسرح الدمى خصوصاً؟ وهل فعلاً ما زال قادراً على التأثير الفعلي على عملية صنع القرار لدى مختلف الفئات الشعبية؟
المراجع:
د. فاضل خليل: تاريخ وتطوّر الدمى في العراق دراسة .
من النبذة التاريخية لمسرح الدمى من دراسة الباحثة الأردنية رحاب أبو هوشر بعنوان مسرح الدمى للطفل بين الشكل والمضمون.
3- 4 مختار السويفي: خيال الظل والعرائس في العالم القاهرة: الكتاب العربي، 1967 .
5 دراسة نقديّة بعنوان «مسرح الدمى بنية تربوية للطفل» للدكتورة أمل الغزالي.
6-7 محمد حسين العمبارة: أصول التربية التاريخية والاجتماعية والنفسية الأردن: المسيرة، 2000 .