الصين من عملاق اقتصادي إلى عملاق عسكري؟
زياد حافظ
ما زال الإعلام العربي بشكل عام واللبناني بشكل خاص، مع بعض الاستثناءات، يعجّ بالأنباء عن دول الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص من دون الانتباه إلى ما يحصل في الكتلة الأوراسية والصين. فالتحوّلات التي حصلت في موازين القوّة دولياً هي لصالح تلك الكتلة المحورية والتي امتدّت تداعياتها إلى المشرق العربي، خاصة بعد فتح معبر البوكمال بين بلاد الرافدين وبلاد الشام. فصمود سورية وفصائل المقاومة وتحالفاتها الإقليمية أعطت قيمة مضافة للكتلة الأوراسية. وفائض القوّة في تلك الكتلة يترجم بقيمة مضافة لمحور المقاومة.
من عناصر فائض القوّة هو الدور العسكري الصيني المتنامي. فإذا بدأت بعض النخب العربية تسلّم، وإن على مضض، بواقع الحال للقوّة الاقتصادية الصينية التي قد تتفوّق وتسبق نظيرتها الأميركية إلاّ أن هناك حالة إنكار لأي دور سياسي لها في المنطقة، بسبب اعتقاد تلك النخب بأن القوّة العسكرية الأميركية لا تضاهيها أي قوّة أخرى في العالم. غير أن هذا التقدير في غير مكانه ولا يأخذ بعين الاعتبار التطوّرات التي حصلت في محور الكتلة الأوراسية وخاصة في ما يتعلّق بروسيا والصين على الصعيد العسكري.
فاجأ الرئيس الروسي العالم في خطابه إلى الأمة الروسية في ربيع 2018 عندما كشف عن التقدّم العسكري الكاسر للتوازن الاستراتيجي في التسليح التقليدي. طابع الفلسفة التسليحية الروسية هو إنتاج السلاح الدفاعي بينما طابع السلاح الأميركي هو الطابع الهجومي. فبعد حالة الإنكار والذهول التي أصابت الدوائر الغربية العسكرية حول تلك التطوّرات يتفاجأ العالم بما أقدمت عليه الصين. وبمناسبة الاحتفال بالعيد السبعين لإقامة دولة الجمهورية الشعبية الصينية تمّ عرض عسكري كشف عن تملّك الصين لأسلحة هي أيضاً كاسرة للتوازن الاستراتيجي العسكري التقليدي. وتعمّ وسائل التواصل الاجتماعي فيديوات عن العرض العسكري الصيني الذي كشف عن صواريخ تفوق سرعة الصوت بعشرة أضعاف أو ماك 10 hypersonic ومن إنتاج صيني، أسوة بنظيراتها الروسية من إنتاج وتصميم روسي. وهذه الصواريخ يصعب كشفها من قبل الرادارات الأميركية وبالتالي حماية قطعها العسكرية البحرية التي تحوّلت فجأة إلى خردة عائمة في البحر! فالتكنولوجيات التسليحية المتطوّرة أصبحت مشتركة بين الدولتين. وتعتبر الدوائر المختصة في الشأن العسكري في الغرب أن التكنولوجيا العسكرية الروسية والصينية تسبق التكنولوجيا الغربية بما يوازي جيلين على الأقل. وبالتالي السباق التسليحيّ انتهى قبل أن يبدأ رغم الموازنة الضخمة التي رصدتها الولايات المتحدة لعام 2020 لوزارة الدفاع التي قد تبلغ 1.4 ترليون دولار، أي ضعف موازنة عام 2019. بالمقابل لا تتجاوز ميزانية الدفاع الصينية 224 مليار دولار أي حوالي 30 بالمئة فقط من الميزانية الأميركية لعام 2019 وأقل من 15 بالمئة من ميزانية عام 2020 المرتقبة. هذا يعني أن كلفة الإنفاق في الصين وكما في روسيا أقل بكثير من الإنفاق الأميركي ولكن بنتائج وفعّالية أكبر من الإنتاج الأميركي. إخفاقات شبكات الصواريخ الأميركية المضادة في كل من بلاد الحرمين والكيان الصهيوني شكّلت ضربة قاسية لمصداقية فعّالية وجودة السلاح الأميركي.
العرض العسكري الصيني كشف عن بعض ما في ترسانة الصين، من قاذفات شبح استراتيجية مخفية stealth وصواريخ بالستية دي. أف 17 عابرة للقارات تتجاوز 14 ألف كيلومتر وشبكات الرادار المتطوّرة. لسنا هنا في إطار تعداد الترسانة الجديدة التي أذهلت المراقبين الغربيين، بل لترجمة مغزى هذا العرض على الصعيد الجيوسياسي وخاصة الصراع مع الولايات المتحدة. وفي أعقاب العرض العسكري جاء تصريح الرئيس الصيني أن الصين لن تنحني لأي طرف وأن العالم لا يحترم إلاّ القويّ! ومن الواضح أن صبر الصين التقليدي بدأ ينفد بعد سلسلة الإهانات والاتهامات الموجّهة من قبل الإدارة الأميركية في ما يتعلّق بالتلاعب مع العملات وسرق الأسرار التكنولوجية وبعد فرض التعريفات الجمركية على البضائع الصينية. يقول الرئيس الصيني: إننا هنا ولن نخضع لأي إملاء أميركي أو بريطاني. فالولايات المتحدة وبريطانية وراء عمليات الشغب في هونغ كونغ، آملين أن تنتفض تلك المدينة على كافة الجغرافيا الصينية. ما يغيب عن بال هؤلاء أن هونغ فقدت كثيراً من قيمتها الاقتصادية للاقتصاد الصيني ولم تعد تمثل أكثر من اثنين بالمئة من الناتج الداخلي الصيني. لكن الصين لن تقبل بتجزئة أراضيها أو أي حركة انفصالية مهما كلّف الثمن.
تصريح الرئيس الصيني قد يكون مفتاح استشراف الموقف الصيني للسنوات المقبلة. الدبلوماسية الفعّالة تستند إلى قوّة وإسقاط القوّة على كافة الأصعدة، سياسياً واقتصادياً وجغرافياً. والأولويات في الصين قد تكون في بسط سلطانها في بحر الصين وخاصة فوق الجزر المتنازع عليها وفقاً للمقولة الغربية بقيادة الولايات المتحدة وأستراليا في محيط بحر الصين. وأهمية الجزر تعود إلى ضرورة السيطرة على الممرّات البحرية التي تحيط بالصين والتي كانت هدف الإمبراطورية البريطانية ومن بعدها الولايات المتحدة وفقاً لنظرية هالفورد ماكيندر حول ضرورة السيطرة على آسيا عبر السيطرة على البحار المجاورة لها وعبر التموضع في مفاصلها.
الصين كانت تستعمل حتى الآن الذراع الاقتصادية كركن أساسي لدبلوماسيتها، إضافة إلى خطاب يتمسّك بالقوانين الدولية والمؤسسات الدولية لدرء الشكوك عن أي نيّات عدوانية أو توسّعية. لكن الطبيعة ترفض الفراغ والتراجع الملموس لنفوذ الولايات المتحدة في آسيا كما في سائر أنحاء العالم، يعني أن لا بد من ملء الفراغ. وهنا يأتي دور الصين كبديل عن الولايات المتحدة في فرض منظومة أمنية في جنوب شرق آسيا. منظمة شانغهاي نموذج عمّا قد تقدم عليه الصين وبدعم من روسيا.
في هذا الإطار لا بدّ من الإشارة الى المناورات العسكرية الضخمة المشتركة بين روسيا والصين والهند وباكستان التي أجريت في أيلول 2019 كدليل على المدى التنسيقي بين دول الكتلة الأوراسية. ويجب الانتباه أيضاً إلى تصريح الرئيس الروسي بوتين حول عزم روسيا إنشاء شبكة دفاع جوّي لكل آسيا وليس فقط لروسيا ما يدّل على مدى عمق التنسيق بين روسيا والصين. وإضافة لذلك تقوم روسيا على مساعدة الصين في بناء شبكة إنذار مبكر لأي محاولة لهجوم بالستي استراتيجي من قبل الولايات المتحدة ما يمكن إلى فرض الاستقرار بين الصين والولايات المتحدة. كما أن الهند قد لا تكون بعيدة عن الالتحاق بالشبكات الدفاعية الروسية خاصة وهي تدرس إمكانية شراء منظومة أس 400 وحتى أس 500. كذلك الأمر بالنسبة لباكستان. هذا يعني أن منظمة شانغهاي قد تكون أكثر فعّالية من منظمة الحلف الأطلسي والمستقبل سيبين ذلك.
هذا يعني أن سياسة التحول إلى شرق آسيا التي أطلقها الرئيس أوباما والتي يحاول تنفيذها الرئيس ترامب فشلت في احتواء كل من الصين وروسيا. فمحاولات كيسنجر وبريجنسكي للتفرقة بين روسيا والصين فشلت فشلاً ذريعاً. كما أن مشروع التحالف/الشراكة الاقتصادية لدول المحيط الهندي عبر معاهدة تي، بي، بي TPP or Trans Pacific Partnership أحبطها ترامب. واستطاعت الصين أن تجذب دول المحيط الهادي للتعامل معها عبر فتح أسواقها المالية والمتاجرة معها والدفع بالعملات الوطنية. يمكن القول إن الصين ومعها روسيا في إطار النجاح في تحييد دور الولايات المتحدة في آسيا في الحد الأدنى تمهيداً لإخراجها من آسيا كلّياً في الحد الأقصى.
المعارك الخلفية التي تديرها الولايات ضد الصين تتجلّى بالشغب الذي افتعلته في هونغ كونغ، حيث ارتفع فجأة سقف المطالبة من إلغاء قانون مجحف إلى الاستقلال عن الصين. لكن لن تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها من منع الصين من التقدم سياسياً وعسكرياً وبطبيعة الحال اقتصادياً في دول آسيا التي كانت في فلك الولايات المتحدة. فالتمركز العسكري الأميركي في تايوان انخفض بشكل ملموس منذ الانفتاح المتبادل بين الصين والولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي. أما في كل من كوريا الجنوبية واليابان فالوجود الأميركي الكثيف نسبياً يثير حفيظة المزاج الشعبي في البلدين. وكوريا الجنوبية حريصة على ألاّ تصبح كبش المحرقة في صراع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. هنا يظهر دور الصين المحوريّ في ضبط إيقاع سلوك كوريا الشمالية من دون كبحها أو احتوائها. فالمصالح المشتركة مع كوريا الشمالية كفيلة بعدم تعريضها لمطامع الولايات المتحدة.
الصين تشعر أن حقبتها قد بدأت وهي محقّة بذلك الشعور. فطريق الحرير والحزام الواحد استراتيجية فعّالة. والتحوّلات التي حصلت في بلاد الرافدين وبلاد الشام تجعل التواصل من بحر الصين إلى بحر المتوسط من حالة افتراضية إلى واقع مادي. والحديث عن شبكة سكك حديد تربط بحر الصين والبحر المتوسط ستوحد القارة الآسيوية، كما وحّدت شبكة سكك الحديد الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، خاصة أن الصين تنتج القطارات السريعة التي تنافس سرعة بعض الطائرات. من هنا نفهم مدى انزعاج كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من فتح معبر البوكمال الذي يربط أواصر محور المقاومة بالكتلة الأوراسية.
الصين مرشحة للاستثمار في كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وسورية في بناء البنى التحتية وتطويرها. والمبالغ المتداولة تتجاوز مئات المليارات من الدولارات ما يجعل منطقة شرق المتوسط منطقة مزدهرة في المرحلة المقبلة. وهذا سيمتدّ إلى كل من بلاد الرافدين وبلاد الشام حتى البحر المتوسّط. ومع الوجود الاقتصادي لا يمكن استبعاد الدور الصيني في المشاركة في صوغ أمن منطقة الإقليم المبنية على مفهوم البحار الخمسة.
كاتب وباحث اقتصاديّ وسياسيّ والأمين العام السابق للمؤتمر القوميّ العربيّ