آخر الكلام بين حسم باكستان… وميوعة لبنان
جورج كعدي
قبل بضع سنين حسم الرئيس الروسيّ الفولاذي فلاديمير بوتين أكثر من معركة كسر عظم وعضّ أصابع مع الإرهاب، مرّة في مسرح، ومرّة أخرى في مدرسة، وما سبق الحادثتين وما لحقهما من مواجهات مستمرّة. لكن في هاتين الواقعتين الكبيرتين قُتل جميع الإرهابيّين محتجزي الرهائن، إنّما سقطت في أعمال المداهمة الحازمة والحاسمة ضحايا مدنيّة، مرّة بالعشرات، وأخرى بالمئات مئات التلاميذ الأطفال في حادثة المدرسة الروسيّة . ولا أحد يمكن أن يكون مع سقوط المدنيّين والأطفال، إلاّ في حال كان ثمناً محتوماً لا مفرّ من دفعه، أوّلاً للقضاء على الإرهاب والإرهابيّين وتلقين أشباههم درساً من خلالهم كي لا تتكرّر أفعالهم المجرمة في كلّ حين، ثانياً لحفظ هيبة الدولة وأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة المولجة بالأمن وسلامة المواطنين، كي يشعر المواطنون أنفسهم بأنّ ثمّة دولة قوّية وقادرة وحاسمة تحميهم، تصون حياتهم وكرامتهم وأرزاقهم.
حدث ذلك في روسيا، ولعلّه أمر طبيعيّ لدولة عظمى لا تخضع للإرهاب ولا تفاوض الإرهابيّين ولا تتردّد في اتخاذ القرارات الضروريّة والمصيريّة. لكنّ باكستان، غير المصنّفة دولة عظمى، رغم كونها دولة نوويّة، حذت بالأمس حذو روسيا في حادثة مدرسة بيشاور المؤسفة والمؤلمة، التي تذكّر بمأساة المدرسة الروسيّة قبل سنوات. حزمت السلطة الباكستانيّة أمرها وأرْدَت جميع الإرهابيّين، لكن ويا للأسف، سقط عشرات بل مئات التلاميذ ضحيّة الهجوم الحاسم.
من روسيا وباكستان… إلى لبنان، بلد اللاحسم واللاقرار بامتياز، فبعد فضيحة خطف العسكريّين من مواقعهم الهشّة عديداً وعتاداً واستحكاماً في جرود عرسال، انطلقت الفجيعة والمأساة المستمرّة فصولاً حتى الساعة، وإلى الآن لا تحسن الدولة اللبنانيّة التعامل القضيّة بوجهيها، الإنساني المتعلّق بأهالي العسكريّين المفجوعين باحتجاز أبنائهم الذين يذبحون واحداً تلو الآخر، والوطنيّ المتعلّق بهيبة الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها العسكريّة والأمنيّة. ولا يرى أهل العسكريّين، والمواطنون عامّة، سوى الضياع والتخبّط والتردّد وتعدّد الجهات التي تتولّى الملفّ وتداخلها بل التنازع حولها وفي شأنها، فضلاً عن تحوّل ما يُدعى «خليّة الأزمة» إلى «أزمة خليّة» تحتاج إلى من يجد لها ولمكوّناتها المتناقضة و«قراراتها» اللاقرارات حلاً ومعالجة!
لا دولة في العالم تتعامل مع قضيّة بهذا الحجم بميوعة وتخبّط وتردّد ومبالغة في الحذر وتفادٍ للحسم والقرار مثل الدولة اللبنانيّة التي وقعت على رأسها هذه «المصيبة» المضافة إلى مصائبها الكثيرة وبعضها أصغر وأبسط بكثير ولا تُحسن ابتداع الحلول له واتخاذ القرار الجليّ في شأنه! لا دولة في العالم تزايد على مواطنيها بالخوف والعجز والضياع والحيرة والاستسلام مثل الدولة اللبنانيّة التي تسجّل رقماً قياسيّاً تستحقّ معه دخول «غينيس» في رفع الشعارات الخشبيّة التي لا تحلّ مشكلة ولا تحرّر محتجزاً، بل يسمع الناس، المعنيّون مباشرة أو غير مباشرة بالملفّات الساخنة، أكذب التصريحات وأكثرها نفاقاً وديماغوجيّة وتناقضاً من أفواه «المسؤولين» غير المسؤولين، نوّاباً ووزراء ورؤساء وأمنيّين، ما يؤكد حالة العجز واللاقرار وانعدام الوزن التي تعيشها الدولة اللبنانيّة وهي ترتكب خطأ كبيراً، بل خطيئة كبرى بعدم اعتماد النموذجين الروسيّ والباكستانيّ، سالفي الذكر، إذ لا طريقة أخرى للتعامل مع الإرهاب والإرهابيّين سوى الحسم، وإن المتأخّر جداً كما في الحالة اللبنانيّة. لا حلّ آخر، فمع الإرهاب لا ينفع التروّي، ولا الحكمة، ولا الصبر، ولا التفاوض، ولا التبادل، ولا المقايضة… لا شيء يجدي سوى الحسم والتعامل بقوّة وشدّة مع كائنات متوحّشة ليست من صنف البشر، تذبح الأعناق ولا تقيم وزناً لإنسانيّة الإنسان، ناعمة بجهلها وتخلّفها ووحشيّتها وأين منها وحشيّة الإنسان البدائيّ الأول الذي كان بدائيّاً، لكنّه كان إنساناً في الأقلّ.
قمّة المأساة تكون إذا فكّرت الدولة اللبنانيّة العليّة أو إذا كانت تفكّر اليوم في التضحية الخبيثة المضمرة بالعسكريّين المساكين الذين يعانون أقصى العذابات في احتجازهم، ويعاني معهم ذووهم ألماً لا يوصف ولا يدرك حجمه ومعناه ووطأة إيلامه إلاّ مَنْ تصوّر نفسه في موقعهم وتخيّل أنّ له ابناً أو أباً أو أخاً محتجزاً ومهدّداً بالذبح! تكون دولة مجرمة، عاجزة، فاشلة أعظم فشل، إن هي فكّرت في التضحية بهؤلاء العسكريّين المغلوب على أمرهم.
معلومٌ ما هو المطلوب، شنّ هجوم مدروس ومحكم ومباغت ضدّ الإرهابيين لتحرير الرهائن بأيّ ثمن، وليكن بعدئذ ما يكون، فعلى الأقلّ تنجو الدولة والوطن من صورة العجز والضعف وفقدان القرار والهيبة، وينجو احتمالاً عدد من العسكريّين المحتجزين، إن لم يكن معظمهم، وحتّى لو وقع الأسوأ فإنّ في عمليّة حازمة حاسمة كهذه ربحاً مضموناً ولن يعاتب الدولة أحدٌ على ما فعلته لأنّ العسكريّين المظلومين يُذبحون واحداً تلو الآخر، في ظلّ الهجوم أو عدَمِه، وحظوظ النجاة لبعضهم أو لمعظمهم أرفع، وهيبة الوطن ومؤسّساته تُستردّ مئة في المئة، ويتلقّى الإرهاب ضربة قاصمة. إنّها حسابات ربح صافٍ للجميع، للعسكريّين وذويهم المعتصمين والمنتظرين والمتألّمين، وللوطن بأسره، منهياً أزمة من الأخطر والأعقد في تاريخ أزماته وحروبه الكثيرة والمتوالية.