الفيلم لا يبدأ من النهاية… عفواً حزب الله… لم نشبع من مائدة شبعا
نارام سرجون
أجمل ما في الرصاص الذي أطلقه مقاومو حزب الله في شبعا هو أنه استقرّ في قلوب الثوار العرب والعرب كما في قلوب «الإسرائيليين»… فلقد تعبت آذاننا من احتفالات الثوار بصواريخ «إسرائيل» وتكبيراتهم لغاراتها وإقامتهم مهرجانات السعادة والشماتة… وكان رصاص شبعا وكورنيتها – الذي ذوّب الفولاذ كالشمع – الدواء الذي يشفي صداعنا… فقد كان الثوار والعرب يتحوّلون في كلّ غارة «إسرائيلية» الى باعة متجوّلين يحملون مكبّرات الصوت وينادون بشكل صاخب وتتداخل أصواتهم على بضاعة «إسرائيل» من ماركة نتنياهو… الردئية… التي تؤدّب المغامرين المقاومين وتتحداهم… كان الدخول إلى مواقع الثوار الإعلامية وفضائيـات العـرب أو الجلـوس بينهم يسبب الصـداع فهو يشبه الدخول الى شارع من الشوـارع الشعبيـة الفقيـرة التي يفتـرش بها الباعة والمهرّبون واللصوص الأرصفة ببسطاتهم ويقاطعون مسيرك بأصواتهم المتداخلة وصيحات عروضهم… وقد يطرحون عليك بضائعهم وميزاتها ويتحدّونك انْ وجدت بضاعة رخيصـة بمثل جودتها… بضاعة أسئلة الثوار الرديئة على أرصفة الانترنت وأرصفة الفضاء كانت من مثل: لماذا لا يردّ حسن نصـرالله وحليفه بشار الأسد؟ أيـن هي صواريخهمـا التي يتباهيــان بها؟ وأيـن هو محور المقاومة الذي لا يجـرؤ علـى «إسرائيـل» لكنـه لا يبخـل علينـا بالبراميـل المتفجرة؟ أم انكم جميعاً من جماعة الردّ المناسـب في الـوقت المنـاسب؟ وووو… وكلهـا أسئلـة منتشيـة ومبللـة بالشماتـة القصـوى…
هذه أول مرة أحسّ أنّ للرصاص فائدة الدواء وهو يشفي الصداع… فقد صمت الثوار كما صمت نتنياهو الذي تناول وجبة ضخمة من الإذلال وتكسير الرأس… وصار الرصاص حجراً يلقّم به قادة «إسرائيل» وباعة المعارضة الجوالون على أرصفة السياسة… أرصفة السياسة هذه الأيام خلت من الباعة الجوالين… والسؤال الذي يجب أن يكون في برنامج جائزة المليون الذي قدمه الاعلامي الرفيع جورج قرداحي هو أين ذهب صلف نتنياهو… ومتى سيرد؟ ومن لا يعرف الجواب فيمكنه أن يستعين بصديق من محور المقاومة ليعطيه الجواب الصحيح… ولكن حذار أن يسأل الجمهور «العربي» لأنه سكران بالثورات، ومكتظ بالإسلاميين، ولا يعرف الفرق بين الربيع والكارثة والمؤامرة… ولا الفرق بين الإمام علي بن ابي طالب والحاخام عوفاديا يوسف… وجمهور كهذا لا يعتمد عليه… والأفضل سؤال الكومبيوتر بدلاً منه…
ولم يصمت الثوار فقط، بل كذلك صمت العرب صمتاً لا يفوقه صمت عندما تكلم الرصاص في شبعا حتى اعتقدت أنّ حناجرهم قد تحجّرت وأنّ أصواتهم غرقت في البحر الميت وصارت ملحاً… والعرب لا يصمتون إلا في حالتين… الاولى عندما ينصتون من خلف الأبواب على صوت اغتصاب فلسطين وصراخها وأنين ابنها المسجد الأقصى وهو يصلب في كنيسة القيامة… والثانية عندما يرتفع صراخ «إسرائيل» من الألم وهي تبلع السيف… فتصاب فرائصهم بالتقصّف… ويبولون في ثيابهم…
ما حدث في شبعا يذكرني بمقولة شهيرة لشيمون بيريز… ولكن دار الزمن دورته وشاءت الأقدار أن نقولها له اليوم… ففي أثناء المفاوضات السورية ـ «الإسرائيلية» في واي بلانتيشن برعاية بيل كلينتون في التسعينات كان «الإسرائيليون» يصرّون لتحقيق السلام على أن يتمّ إنجاز خطوات السلام مع سورية قبل الانسحاب من الجولان… بمعنى أن تبدأ خطوات التطبيع أولاً ويحتفل السوريون و«الاسرائيليون» بتبادل افتتاح السفارات والمكاتب التجارية ومهرجانات ومشاريع السلام التجارية المشتركة، ثم بعد ذلك ينسحبون من الجولان… كمكافأة على السلام الذي أبداه السوريون… لكن السوريين كانت لهم وجهة نظر صلبة لا تتزحزح، وهي أنّ الانسحاب من الجولان هو بداية أيّ سلام… وبعد الانسحاب منه كاملاً يمكن البحث في ثمار السلام التي يريدها «الإسرائيليون» لأن سبب الحرب هو بقاء «الإسرائيليين» في الأرض وليس غياب السفارات… وانسحابهم هو أول خطوة جوهرية باتجاه السلام… وعندها قال شيمون بيريز لمحطة «سي أن أن» مبتسماً: يبدو أنّ السوريين يريدون رؤية الفيلم من نهايته السعيدة… أما نحن فنريد رؤية الفيلم من البداية… تطبيع ودفء ثم انسحاب…
اليوم تصرح «إسرائيل» بأنّ المسؤول عن الحادث بشكل رئيسي هو ايران، وتؤكد على استبعاد المسؤولية المباشرة لحزب الله وسورية عن عملية شبعا لأنهما المنفذان لأوامر إيرانية… وهو تهرّب فاضح من تحدّي الطرفين المعنيين مباشرة بالتوتر على الحدود… وهذا التهرّب بعد كلّ الصلف «الإسرائيلي» هو أسوأ درجة من درجات الردّ في الوقت المناسب في الزمان المناسب … فـ»إسرائيل» تعني أنّ المسؤول عن الحادث هو إيران… إيران البعيدة عن متناول اليد «للجيش الذي لا يقهر»… وذلك اقتضى عدم الردّ المناسب في أيّ زمان مناسب وأي مكان مناسب… وسكوت «إسرائيل» على تحدي حزب الله ومن خلفه سورية ليس مجرّد إدراك لحقيقة أنّ حزب الله لا يحب المزاح على الحدود… وليس لأنّ «إسرائيل» اكتشفت أنّ من تواجهه ليست عقولاً ساذجة وليست متهوّرة ولا مغامرة بل هي عقول استراتيجية… تملك مع العقول الاستراتيجية أسلحة نوعية واستراتيجية بدليل اعترافات السيد حسن نصرالله بأنّ مخازنه مشبعة ومتخمة بكلّ أصناف الأسلحة النوعية… ولذلك فإنّ «إسرائيل» أوحت برسائل كثيرة أنها تريد الآن رسم خط في نهاية هذه المواجهة وتوقف تبادل الردود… وانهاء الدرس بالتعادل.
ولكن هل انتهى الدرس؟ بالعودة الى تصريح شيمون بيريز عن بداية الفيلم ونهايته فإنه من سوء الطالع لـ«إسرائيل» أنها تتحدث الآن عن رغبة برؤية نهاية الفيلم… وتريد أن ترى الفيلم من مشهد النهاية التي تسمّيها «عملية شبعا»… ولكن الحقيقة أننا كمحور للمقاومة مصرّون على أن نعرض الفيلم من البداية نزولاً عند رغبة شيمون بيريز الذي يحبّ الأفلام من بداياتها وليس من نهاياتها… وفيلم «عملية شبعا» ليس إلا المشهد الأول… واسم هذا المشهد صريح لا لبس فيه بيان المقاومة الاسلامية رقم 1 … واسم الفيلم بالكامل هو تحرير الجولان … وآخر مشهد فيه سيكون مثل آخر مشهد من فيلم تحرير جنوب لبنان الذي رآه بيريز ونتنياهو من بدايته الى نهايته «الإسرائيلية» الكئيبة الذليلة… ففي النهاية منظر لا ينسى… انسحاب مستعجل ومتوتر وتدافع نحو داخل فلسطين المحتلة… ورمي للعملاء من الشاحنات… وفي آخر لقطة يظهر أنطوان لحد يعمل في مطعم وبار في تل أبيب بعد أن كان حاكم جنوب لبنان… وقريباً قد ينضمّ اليه ابو محمد الجولاني وثواره عند إتمام المشهد الأخير في الجولان…
«إسرائيل» بلغت بها السذاجة أنها بعد فشل مشروع تقسيم سورية والسلام المتفق عليه مع المعارضين و«الإخوان المسلمين» أدركت أنّ هدوء سورية سيعني تحريك الجولان… ففتحت جبهة الجولان وزنّرت نفسها بـ«جبهة النصرة» لابتزازنا ليكون ثمن بقائها في الجولان الانسحاب من التحالف مع المعارضة السورية… ولكنها لم تتنبّه الى أنها علقت مع من يبدع في عمليات المقاومة وله باع طويل بها… وهي تريد بأيّ ثمن أن تعود الأمور الى سابق عهدها… هدوء وجولان للسياح… ومزارع… ومناطق تزلج… وقبعات زرق… ومستشارو نتنياهو يسرّبون مهدّدين أنهم قد يردّون قبل خطاب نصرالله اذا لم يقبل محور المقاومة بالعرض… ولكنهم أجبن من أن يجرؤوا…
وهذا الحلم صار مستحيلاً… فالأسد أعلن الجولان منطقة مقاومة ولا عودة عن هذا القرار… والجولان مشروع تحرير لا مشروع مفاوضات بعد اليوم… ووجود خبراء المقاومة الشعبية من حزب الله دليل على نضوج المشروع… وهذا كابوس لا كابوس بعده لـ«إسرائيل»…
ومن يذيب الصلف «الإسرائيلي» عن التصريحات التي تعبّر عن الغضب من وجود زوار المقاومة في الجولان وأنها لن تسمح بتجاوز الخطوط الحمر ولا بوجود غير المرغوب بوجودهم والمغضوب عليهم فإنه يرى أنّ مسؤوليها يطرحون في ثنايا كلامهم اقتراحات خفية مفادها أنهم قد يوقفون التعاون مع «جبهة النصرة» والمسلحين السوريين والمنطقة العازلة اذا تعهّد السوريون بإيقاف مشروع المقاومة في الجولان وأعادوه الى ملفات المفاوضات… وأعادوا نمور حزب الله الى أقفاص جنوب لبنان وأقفاص المماحكات السياسية حيث الإحراج من المقاومة وسلاحها… وحيث ينصرف السيد حسن نصرالله إلى مجادلة سمير جعجع وسعد الحريري وأحمد الأسير… وغيرهم… بدلاً من أن يشتغل بجنود «إسرائيل» في لبنان… والجدال مع هؤلاء يشبه إشغال النمور بصرخات القرود وضجيجها وصخبها…
ولكن عندنا أخبار سيئة جداً لرواد سينما الواقع من «الإسرائيليين» الذين لأول مرة نكتشف أنهم يفضلون رؤية الأفلام من النهاية لا من البداية… وهي أنّ الفيلم بدأ مشاهده الأولى بمشاهد عنيفة وفولاذ منصهر في قوافل طويلة… في شبعا…
ولذلك فإنه يسعدنا أن نعلن أنّ الفيلم مثير جداً… ومشوّق جداً… وسيُقال لنتنياهو اقتباساً عن فضائية من فضائيات العرب التافهة مش ح تقدر تغمض عينيك حقيقة… فهي أفضل عبارة تقال لنتنياهو وتستحق تلك الفضائية براءة اختراع للعبارة التي سنهديها لنتنياهو القبضاي… سبع الفلا…
واذا كانت عملية شبعا مائدة سريعة دعانا اليها حزب الله فإننا نعلن أننا لم نشبع… وسننتظر سيد المقاومة ليدعونا بشكل مستمرّ… إنه كريم… ونجن نستحق كرَمَه… وسنقول من دون تردّد:
عفوا محور المقاومة… عفوا حزب الله… ها نحن ننهض ولم نشبع بعد… من مائدة شبعا… فهل من مزيد؟
ملاحظة: اسمحوا لي أن اتوجه بأحرّ التعازي الى المعارضين السوريين الذين لا شك أنّ عملية شبعا قد أصابتهم بالخيبة والألم وعقدت ألسنتهم… وأخصّ بالذكر البائع المتجوّل كمال اللبواني الذي يبيع الجولان على الأرصفة السياسية… وليس لديّ شك أنه أرسل باسم الائتلاف السوري المعارض رسالة تعزية وتضامن الى الحكومة «الإسرائيلية» و«الإسرائيليين»، وأبدى أسفه الشديد على إذلال «إسرائيل» وجيشها… ولا شك أنّ نتنياهو قد تلقى عشرات الرسائل والبرقيات العربية من ممالك النفط ومن الجامعة العربية ومن الخليفة العثماني أردوغان بهذه المناسبة المؤلمة… ومن ديوان الخليفة ابي بكر البغدادي الذي نحَر بعض المسلمين كالقرابين ترحّماً على شهداء أهل الكتاب…