عزة رشاد تنسج عالماً روائيّاً صغيراً وتحرّك شخوصه بدفء

في رواية «شجرة اللبخ»، أحدث إصدار للكاتبة المصرية عزة رشاد، ترسم الروائية عالماً صغيراً وتحرك شخوصه في أفراحهم وأتراحهم وأحلامهم ومشاكلهم بطريقة مؤثرة ودفء مقنّع في الغالب وقدرة جلية على السرد الناجح. وتكتب الروائية بسخرية كاسحة، إنما هادئة، تقول الامور الكبيرة بكلام قليل يحافظ على هدوئه، بينما يدمر بهذا الهدوء خرافات ومعتقدات مترسخة ومعها أساليب من النفاق والدجل.

العالم الذي يشكل الواقعي القسم الأكبر منه يحتل الخيالي فيه منزلة ذات سمة عامة لا تدخل إلاّ في بعض التفاصيل. يشبه صرحا بنته الكاتبة على أعمدة بلغ عددها أربعة عشر هي الشخوص الأبرز في الرواية. 351 صفحة قطعاً وسطاً، لدى «دار الكتب خان» في القاهرة .

جعلت الطبيبة عزة رشاد كلاً من هذه الشخوص تتحدث عن نفسها وعن الآخرين، فتكشف أسراراً وتنسج علاقات تتشابك على نحو يكشف عن بناء يرتفع ويتكامل. إنه عالم ريفي صغير متكامل من ناحية، وهو من ناحية أخرى عالم يرسم شخصية معينة هي شخصية رضوان بيه البلبيسي سيد «درب السوالمة»، الذي يمثّل يداً حديدية بطاشة من ناحية ومنقذاً ومخلصاً وحامياً لكثير من هؤلاء القرويين الفقراء الذين يعيشون في ظله. إنهم منبع لثروته لكنهم أو كثيرين منهم يتوهمون أنهم يعيشون في نعيمه وينعمون بفضله وعطفه. وهو قادر بسهولة على أن يظهر بهاتين الصورتين.

لا يتحدث رضوان بيه عن نفسه، وليس له دور في السرد كسائر الشخوص التي تحدثت عن نفسها وغير نفسها، لكن هذه الشخوص وكل ما في هذا العالم الريفي الصغير يتحدث عنه كما تتحدث عنه عادات الجماعة وما أضحى لديها من تقاليد حديثة.

تبدأ الرواية بما أسمته الكاتبة «مفتتح». يتحرك في عزبة درب السوالمة موكب تشييع رضوان بيه البلبيسي، إذ يصرخ الولد عتمان بالناس «إن النعش طار» مثلما طارت نعوش الأولياء والاتقياء قبله. وتنتشر بعد ذلك الدعوة الى إقامة مزار لهذا الولي الجديد الذي يضمه الناس الى أولياء راحلين.

تنتقل الكاتبة لتروي القصة من خلال تلك الأعمدة التي قام عليها البناء وحمل كل منها اسم شخصية من شخوص الرواية. وتحت العنوان الأول «سعاد» تقدم إلينا الكاتبة الزوجة الثانية لرضوان بيه بعد الأولى الأرستقراطية المتحكمة «صافيناز». ونفهم من الرواية أنه كانت لرضوان بيه غير هاتين الزيجتين الأساسيتين الرسميتين زيجات أخرى سريعة لم تطل.

يبدأ الفصل الأول في بيت البيه بالحديث عن موته. تقول الكاتبة «تلتمع العيون الباكية لنساء القرية اللائي التففن حول سعاد هانم يواسينها فيما هي شاردة مع كربها لا تصدق أنه مات. رضوان بيه زوجها الذي أحبته وكرهته وخافته وتمنت رضاه وأحيانا موته. لا تصدق أنها حرمت منه الى الأبد.»

الصبي عتمان يخبر الجميع أن «النعش طار» وتدور تفاصيل «المعجزة بين الأفواه. تصغي سعاد متعجبة من البيه زير النساء الذي تحوّل بقدرة قادر الى ولي من أولياء الله الصالحين.»

كانت صبية حسناء عندما أبلغها شقيقها بأنها ستتزوج وتعيش عيشة الهوانم في السراية الكبيرة. يومذاك لم تفهم تماماً معنى أنها ستدخل على ضرة يجري في عروقها دم أناضولي وتقول عن نفسها إنها سليلة أحد رجال محمد علي باشا. إلا أنها لم ترزق صبيّاً بل رزقت بنتاً. تتعذب سعاد لكن أخاها أبلغها أن مكانها هو مع زوجها. رزقت سعاد بصبي أعطي اسم «فارس» الذي أصبح الآن بعد موت أبيه «فارس أفندي». وكان للبيه بنت اسمها ليلى من عالمة أرمينية عقد عليها زواجاً لمدة وبعد موتها حمل البنت الى السرايا حيث عاملتها صافيناز بقسوة. وكان هناك شخص يدعي مبارز قيل إن البيه أرسل من قتله لأنه أرعب ابنه فارس وطارده وكاد يقتله. همام ابن مبارز قرر بعدما شب أن ينتقم من البيه.

نعود الى شخوص أخرى ومنها بشكل خاص حسنين خولي العزبة ومستودع أسرار البيه ومؤامراته فنفهم أن همام الخارج على القانون والذي أدرك حب البيه للمغامرات النسائية استدرجه بواسطة امرأة الى أحد المنازل البعيدة وعندما تعرى هاجمه بالسلاح وهو يهدده.

يبدو أن الخوف والغضب تسببا بموت البيه وهنا دخل ابنه فارس باحثاً عنه فضربه همام فأغمي عليه فأخذ سلاحه ولباسه الافرنجي وألبسه عباءته ووضع البيه الميت في غرفة جانبية وهرب مع المرأة. وهنا وصلت الشرطة فقبضت على فارس متوهمة أنه همام وأخذته الى مركزها حيث أطلق سراحه بعد يومين.

بدأت الجثة تتحلل فجاء فارس بحسنين وسكبا عليها العطور ولفاها ثم جاء بثلاثة من الخفراء حملوا الجثة وساروا بسرعة في مقدمة الموكب، بعيداً من المشيعين خوفاً من الرائحة الكريهة فرأى البعض النعش «يطير» مبتعداً عن الناس فانتشر الخبر وأن البيه ولي.

قبل ذلك كانت ليلى ابنة البيه قد تعلقت بهمام وأحبته ثم اختفى من حياتها. تزوجت من الضابط مدكور ورزقت بصبي، لكن مدكور عثر على رسائل كانت كتبتها قديماً لهمام فأعادها الى بيت أبيها وأخذ ابنها منها مخلفاً لها الحرقة والحزن. بعد ذلك انهار مبنى أحد المستشفيات حيث كانت موجودة فاعتبرت أنها قتلت بين الركام، لكن الخالة «جوليا» وآخرين عالجوها بعدما شلت ذراعها وأصيبت بجروح في الجسم. واختفت في القاهرة حيث عملت في أعمال مختلفة لتعيش.

ثم تعرف إليها متولي ابن قريتها وصديق همام وأخيها أيضاً فأحبها ثم أحبته وتزوجا من دون إعلان وعاشا معاً. وعمل متولي «أراجوزاً» وصار يسخر من رجل الشرطة مدكور. أخوها فارس أحب جميلة ابنة القرية لكن والده أرسله الى باريس فتزوج من سوزان التي عادت معه ثم تركته. تزوج من قدرية ثم ماتت في حريق. بقي على حبه لجميلة وبقيت هي تحبه. غير أن والده الذي خسر ماله في القمار استدان من صافيناز التي أعطته مالها وجواهرها فرهن لها العزبة وبيت القاهرة فصار فارس وأمه من دون ثروة.

فارس أخو ليلى كان يبحث عن همام يريد الانتقام، لكن الأخير بعد موت البيه وحرمانه من قتله بنفسه لم يعد يريد الشر بفارس، بل وجده مختلفاً عن أبيه. مدكور الضابط يريد الإيقاع بهمام وبالذي يقوم بدور الأراجوز ويسخر منه.

لاحق همام الذي ذهب الى متولي فعثر مدكور على الاثنين وقرر القضاء عليهما معاً من دون أن يدري بوجود ليلى التي حسبها ميتة. أطلق النار على متولي لكن همام رمى بنفسه فأصيب بالرصاص وما لبث أن مات. وقبل أن يقتل مدكور متولي أصيب هو برصاصة من فارس شقيق ليلي الذي وصل في تلك اللحظة وحاول مساعدة همام. اكتشف وجود أخته حية فسعد بذلك. وعاد همام الى القرية التي شرد منها في نعش حمله فارس من جهة ومتولي من جهة أخرى.

تختم عزة رشاد الرواية بخيالية رمزية فتقول إن مشروع إقامة مزار للبيه تحت شجرة اللبخ استمر قائماً الى أن اكتمل واحتفل الأهالي بذلك بإطلاق النار والزغاريد، وصار الناس يقدمون إليه النذور، لكن رائحة كريهة كانت تنتشر فتزكم الأنواف على أن رواد المقام بقوا يتمسحون بالضريح مردّدين «شي لله يا سيدي… يا ولي الله».

مرت السنون وتغيرت أحوال القرية وتحولت السراية الى فراغ. تختم الكاتبة روايتها بالقول: «قد يكون درب السوالمة مسرحاً لصراع دار بين الحب والتسامح والجشع والأنانية والولع بالسلطة أو قد يكون أي شيء آخر عدا أنه سيظل مثيراً للدهشة ـن تطلق صفة «جنة» على مكان تندم فيه بعد عشر دقائق من وصولك إليه لكونك لم تحضر معك كمامة طبية.»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى