الديون الخارجية… والخيارات الصعبة

لمياء عاصي

تزداد حدّة الترقب للخيارات المطروحة أمام اليونان والاتحاد الأوروبي، مع تصاعد حرارة الأزمة اليونانية، وخصوصاً بعد أن اصطفّ المواطنون اليونانيون في طوابير أمام الصرّافات، حيث امتنعت البنوك عن دفع أي أموال للمودعين تزيد عن الـ 60 يورو في اليوم، وهذا الإجراء من قبل البنوك غير محدّد التاريخ ولا أحد يعلم متى سيتم الإفراج عن الأموال المودعة فيها، وعادة تتخذ البنوك مثل هذه الإجراءات لمنع التأثيرات السلبية، لخوف الناس على ودائعهم، ما يسبّب ارتفاعاً كبيراً في معدلات سحب الودائع، ما قد ينتج عنه إفلاس لهذه البنوك.

في الحديث عن الأزمة اليونانية، أسئلة كثيرة تطرح نفسها، لعلّ أبرزها: ما هو أصل هذه الأزمة وكيف حصلت؟ بعد انضمام اليونان إلى الاتحاد الأوروبي عام 1981، ودخولها منطقة اليورو عام 2001، أغدق الدائنون القروض عليها وهم يعرفون أنّ كفاءة الأداء الحكومي ليست عالية ولا تحتمل الثقة الكبيرة، في ما يخصّ القروض بهذا الحجم حيث بلغت ديون اليونان حوالي 350 مليار يورو، تمّ صرف قسم منها في إطار خطط الإنقاذ التي هدفت إلى إعادة هيكلة الديون، التي بلغت ما يزيد عن 160 في المئة من الناتج المحلي للبلاد، ولكن وبرغم حصول اليونان على مبالغ من الاتحاد الأوروبي، في إطار خطط الإنقاذ وخضوعها للسياسات التقشفية المطلوبة لخفض عجز الموازنة، فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي وازدادت بطالة الشباب في شكل كبير، ولم تفلح الإجراءات في جعل اليونان قادرة على سداد أقساط قروضها في مواعيد استحقاقها.

تقف اليونان اليوم أمام أحد حلين أحلاهما مرّ، الأول: القبول بالطلبات التي تصرّ مجموعة الدائنين عليها كشرط للموافقة على منحها قروضاً جديدة لتطبيق خطط إنقاذ اقتصادها، والجدير بالذكر أنّ الخلاف بين اليونان والاتحاد الأوروبي يتركز على ثلاث نقاط وهي: تخفيض الرواتب التقاعدية ورفع الضرائب وتطبيق ضريبة القيمة المضافة ثم تحرير سوق العمل، ومن أجل تلك السياسات المطلوبة اتهم رئيس الوزراء اليوناني تسيبراس الدائنين بأنهم «يحاولون إذلال الشعب اليوناني وليس فقط الحكومة اليونانية…». أما الحلّ الثاني فهو أن تفشل التسوية ويعلن الاتحاد الأوروبي، خروج اليونان من منطقة اليورو والعودة إلى الدراخما، وهو ما أطلق عليه تعبير «GREXIT»، وهو خيار صعب جداً ستكون له ارتدادات ليس على اليونان فقط بل على الاقتصاد العالمي، لأنّ الدائنين بمعظمهم يمثلون مؤسسات مالية عالمية وليس أوروبية فقط.

الأهم بالنسبة إلى الأوروبيين هو كيفية انعكاس الأزمة اليونانية على دول مقترضة أخرى، وتحتاج أيضاً إلى مساعدة لإنقاذ اقتصادها الذي يقترب من حدود الأزمة مثل إسبانيا وإيطاليا حيث يعادل مجموع ناتجهما المحلي الإجمالي نسبة 30 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي. فكيف سيتم التعامل لاحقاً مع هاتين الدولتين من حيث خطط الإنقاذ أو تطبيق سياسات تقشفية واقتصادية معينة عليهما؟

إنّ الأزمة اليونانية بكلّ تعقيداتها يمكن اعتبارها مثالاً، للأزمات المالية التي تعصف بالدول، كنتيجة للديون الخارجية التي تفوق قدرة البلد على السداد وخدمة الدين، حيث تبدأ الديون الخارجية بالتراكم عندما يتفاقم العجز في الميزان التجاري، بمعنى أنّ المبالغ المستحقة عليها لدول ومؤسسات خارجية هي أكثر من الأموال التي تستحق لها وتتدفق على حسابها، في هذه الحالة يجب أن تلجأ إما إلى الاحتياطيات التي لديها من النقد الأجنبي أو أن تلجأ إلى الاستدانة من المؤسسات المالية الخارجية أو الدول الأخرى. وعندما ترتفع نسبة الديون لأي دولة إلى مستوى لا يكون بإمكان الدولة المقترضة أن تدفع فوائد وخدمة الدين إضافة إلى الأقساط المستحقة، تكون قد أصبحت أمام مشكلة كبيرة.

إنّ الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي، يرافقه دائماً فرض لمجموعة من السياسات يتمّ تطبيقها على البلد المقترضة، وقد سميت هذه السياسات بتوافق واشنطن وتتلخص بعشر نقاط هي:

سياسة مالية تقشفية وتجنب حدوث أي عجز مالي، وإذا حصل يجب أن يكون بنسبة طفيفة من الناتج المحلي الإجمالي.

تخفيض الإنفاق الحكومي، خصوصاً الرواتب وأي مصاريف تشكل عبئاً على الموازنة العامة.

رفع الدعم أو إعادة توجيهه إلى المستحقين واستهداف الفقراء فقط، وتأمين خدمات التعليم والصحة والبنى التحتية، بدلاً من الدعم الشامل لكافة المواطنين.

إعادة هيكلة النظام الضريبي والتوجه إلى توسيع الوعاء الضريبي وجعل معدل الضريبة أقلّ، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة المبيعات.

معدل فائدة ديناميكية تستجيب لمتطلبات السوق.

تحرير التجارة، وتحرير الاستيراد وإلغاء أي سياسات حمائية سواء بالقوانين أو بالتعرفة الجمركية العالية وتحرير سوق العمل.

تحرير الاستثمارات الخارجية غير المباشرة.

خصخصة شركات وأملاك الدولة وبيعها إلى القطاع الخاص.

تخفيف القوانين المعيقة لدخول السوق وممارسة النشاط الاقتصادي فيه.

تطبيق قوانين حقوق الملكية.

يتضح مما سبق أنّ مجموع السياسات المقترحة في توافق واشنطن، ستكون قاسية جداً على عموم الناس الذين سيعانون من الفقر وتداعياته الخطيرة، وستزيد مخاطر الفجوة بين الأغنياء والفقراء، مع ما تخلقه هذه الفجوة من مشاكل اقتصادية واجتماعية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا تفعل الدول حتى تتفادى مخاطر الاقتراض الخارجي سواء من المؤسسات الدولية أو البنوك التجارية الخارجية، وما ينشأ عن هذا الاقتراض من مشاكل في حال العجز عن تأمين فوائد المبالغ أو أقساط الدين، وكيف لها أن تمضي قدماً في مجال تحقيق النمو الاقتصادي؟

حيث من المعروف أنّ تحقيق نمو اقتصادي يستلزم استثمار الكثير من الأموال في البنى التحتية، وهذه الأموال غير متوافرة لدى الدولة، فهل اللجوء إلى الاقتراض هو حلّ أم مشكلة؟ من المنطقي أن تكون أي دولة حريصة على عدم اللجوء إلى الاقتراض في شكل كبير يتجاوز قدرتها على السداد، ولكن لأسباب مختلفة تحصل حالة العسر وتتطور لتصبح أزمة مالية قد تسبب إفلاس البلد.

في العالم، حصلت الكثير من الأزمات المالية، وما زلنا نذكر أزمة بداية الثمانينات وأزمة المكسيك ثم الأرجنتين ثم أزمة 1997 ـ 1998 في جنوب شرق آسيا التي ضربت كلاً من تايلاند وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والفيليبين، ثم الأزمة المالية العالمية 2007 ـ 2008 أو ما سمي بأزمة الرهن العقاري التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية وانتقلت إلى أوروبا ثم كانت لها تداعيات على معظم الدول في آسيا وغيرها، فكيف تمّت معالجة هذه الأزمات؟

من المعروف، أنّ صندوق النقد الدولي حاضر في كلّ الأزمات، يحاول تقديم خدماته وفرض وصفاته التي أصبحت معروفة بتأثيراتها السلبية وما زالت إندونيسيا حتى الآن تعاني جرّاء أزمة 97ـ 98، حيث وقّع بعدها الرئيس سوهارتو اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، كانت نتيجتها أن ارتفع منسوب الفقر ومعدل الجريمة، وأصبحت الإندونيسيات خادمات في أصقاع الأرض، بينما استطاعت ماليزيا الخروج من الأزمة من دون اللجوء إلى صندوق النقد والامتثال لشروطه وسياساته الصعبة والتي تنال من سيادة الدول.

إنّ السمعة السيئة لصندوق النقد الدولي وسياساته على مستوى العالم، عرّضته لانتقادات وهجوم عنيف من قبل كلّ الحكومات والنقابات والمنظمات الأهلية والمفكرين الاقتصاديين، وخصوصاً الكينزيين منهم نسبة إلى الاقتصادي العالمي جون مينارد كينز ، خصوصاً الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز الذي وصف سياسات صندوق النقد الدولي بأنها وصفة للإحباط لاقتصادي والفقر، وكلفة تطبيق الوصفة عالية جداً، حتى أنّ الولايات المتحدة لم تطبق وصفة صندوق النقد الدولي في أزمتها عام 2008 بل لجأت إلى سياسات معاكسة من حيث طرح حزم الإنعاش الاقتصادي التي لم تنته حتى الآن وبعد مرور أكثر من سبع سنوات عليها.

أخيراً، يمكن تلخيص أسباب الأزمات المالية بثلاث أسباب رئيسية: السبب الأول هو انخفاض كفاءة الإدارة الحكومية حيث أنها تلجأ إلى الاقتراض بأكثر مما تتحمل ميزانية الدولة واقتصادها، كما يقف الفساد والمصالح السياسية وراء الموضوع. أما السبب الثاني فهو تغييرات مفاجئة في الاقتصاد العالمي والدخول في اتفاقيات تجارية أو اقتصادية تجعل البلد المقترضة عرضة لانخفاض مواردها في شكل مفاجئ وغير متوقع. والسبب الثالث، هو المبالغة في تقدير الثقة باقتصاديات الدول وتحملها للقروض من قبل المؤسسات الدائنة، ومرة أخرى نجد أنّ الفساد هو أحد العوامل المشجعة لذلك.

في كلّ الأحوال، لا حلّ للدول النامية التي تسعى إلى تحقيق التنمية المتوازنة والشاملة، إلا باللجوء إلى الموارد والمدخرات المحلية والمستدامة من خلال تعبئتها في الأقنية الاقتصادية والاستثمارية المناسبة، إضافة إلى ابتكار حلول مشاركة للمستثمرين في مشاريع التنمية بدلاً من الاقتراض وتبعاته السيئة السمعة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى