المنتصر والمهزوم تكشفه معادلات الثقة
ناصر قنديل
– تخاض حرب إعلامية ضروس لتغيير وجهة نتائج المواجهات التي دارت خلال عقود طويلة بين محورين دوليين وإقليميين، وشكل التفاهم على الملف النووي الإيراني تتويجاً لها وتعبيراً عن أرصدة القوة التي تجمّعت لدى كلّ من خندقي المواجهة التي كانت سورية المحور الأشدّ تعقيداً في قلبها. ولأنّ شكل انتهاء الحروب الذي عرفناه في الحربين العالميتين الأولى والثانية بزوال دول وكيانات أو أنظمة حاكمة وفرض وثائق استسلام قد ولى، منذ دخول التوازن النووي الرادع، فقد صار لزاماً على المتابع اكتشاف أدوات قياس أخرى تسمح بالاستدلال المنهجي على ضفة النصر وضفة الهزيمة.
– حدث هذا بعد حربي العراق وأفغانستان، وتكرّر بعد حرب تموز عام 2006 وحروب غزة، وعلى رغم اعتراف الجهة التي شنّت الحرب بالهزيمة وهي أميركا و«إسرائيل» في كلّ من الحالات التي عرفناها، لا يزال هناك من يناقش بين صفوفنا، نحن المستهدفون بهذه الحروب، يرفضون الإقرار بهزيمة أميركا و«إسرائيل»، ويبتكر هؤلاء أدوات قياس يريدون عبرها خوض حرب إعلامية ونفسية لتبديل موقع المنتصر والمهزوم، وكأننا أمام لعبة بصرية يمكن التلاعب بها، فتارة تقدّم الخسائر وكيفية توزعها على ضفتي الحرب كعلامة لتحديد المنتصر والمهزوم، فتصير أميركا و«إسرائيل» منتصرتين، ومرات يجري تقديم الأضرار البنيوية التي لحقت بالجهة المستهدفة وتسويقها كتحقيق ضمني غير معلن لأهداف الحرب كتفشي الإرهاب أو انتشار العصبيات الطائفية والمذهبية، فنصير مهزومين، وبهذين القياسين واضح أن تصير أميركا و«إسرائيل» منتصرتين وحركات المقاومة وداعموها مهزومين.
– تقدم لنا تلك الحروب ذاتها أداة قياس نتائجها، وفقاً لعلم الحرب الذي لا تقاس فيه قدرات الجيوش بما يسمّيه الخبراء بالقوة الصافية التي تتضمّن العديد والعتاد، بل بالقيمة الاستراتيجية لهذه الجيوش، وهي مدى قدرتها على منح قادتها فرصة الذهاب إلى الحرب. فجيوش دول متخمة بالسلاح لا يملك قادتها قدرة الذهاب إلى حرب قيمتها الاستراتيجية صفر، ولو كانت قوتها الصافية مرتفعة، والنصر والهزيمة لا يقاسان بمدى تضرّر القوة الصافية للجيوش بحصيلة الحرب بل بمدى تضرّر القيمة الاستراتيجية لهذه الجيوش، أيّ بمدى منح الحرب لقادة الجيوش فرصة الذهاب إلى الحرب مرة أخرى. وهكذا ببساطة هزمت «إسرائيل» في تموز 2006 لأنّ قدرتها على شنّ الحروب تضرّرت، وهزمت أميركا في العراق وأفغانستان لأنها أصبحت أقلّ قدرة على الذهاب إلى خوض حروب جديدة.
– في الحروب والمواجهات الممتدّة عبر عقود والمتناثرة في الجغرافيا كامتدادها عبر التاريخ، عندما تنتهي بتسويات تصير إشكالية الجزم بالنصر والهزيمة أشدّ تعقيداً ويصير اشتغال آلات الإعلام والحروب النفسية على إخفاء النتائج والعبث بها وتحويرها وتزويرها أشدّ فعلاً، لأنّ النصر والهزيمة في نهاية المطاف معادلتان تتصلان مباشرة بكيف تتلقى عقول الناس نتائج المواجهات والتسويات. وفي الحالة الناتجة من مواجهات ممتدّة منذ سقوط جدار برلين ونهاية وتفكك الاتحاد السوفياتي وإطلاق مشاريع توسّع حلف الأطلسي حتى جورجيا وأوكرانيا وصولاً إلى حروب «إسرائيل» كصانع وحيد للسياسة في الشرق الأوسط، وحربي العراق وأفغانستان لتطويق إيران وانتهاء بحرب إسقاط سورية وتوظيف تنظيم «القاعدة» وقبله «الإخوان المسلمين» لإنجاز المهمة، وبعد كلّ ذلك حرب السعودية على اليمن، ليكون التفاهم النووي التسوية التي تفتتح عهد التسويات التي ترمي الأطراف المتقابلة بكلّ ثقلها لحجز مقاعد وثيرة على مائدة المفاوضات التي تستعدّ لاستضافة المتحاربين كلّ برصيد ما جمع من أسباب ورصيد قوة، فما هو معيار الحكم على التسويات في رسم مشهد النصر والهزيمة؟
– تنشط أدوات الحرب النفسية والإعلامية مرة أخرى لرسم معادلات قائمة على التلاعب البصري، فيبدأ التبشير بقراءة تربط تحديد النصر والهزيمة بالعنوان الإعلامي الذي رفعته قوى الحرب وعلى رأسها أميركا، وهو منع إيران من امتلاك سلاح نووي والانطلاق من قيام التفاهم على التزام إيراني بتقديم ضمانات الامتناع عن امتلاك برنامج نووي عسكري للقول إنّ التسوية تحمل نصر قوى الحرب والعقوبات، والمتحدثون يعلمون أنّ إيران باعت ما لا تريد وما لا تملك وحصلت في المقابل على ما تريد وما يملك خصومها، أو يخرج الخطاب القائم على رهانات المكاسب التي حققتها إيران للقول ستتفكك إيران بقوة الرفاهية التي يجلبها الحصول على مال وفير، كمن يقول سيتقاتل الفلسطينيون على الحكم إذا تحرّرت فلسطين بكامل ترابها ويعتبر أن «إسرائيل» التي تكون قد زالت وفقاً لهذه الفرضية منتصرة، بينما التسويات هي فعل تاريخي اجتماعي تنجزه مجتمعات ودول في ما بينها لإنهاء عهد نزاع طويل، فما هو معيار النصر والهزيمة فيها؟
– تقدّم التسويات بذاتها لنا أداة قياس النصر والهزيمة فيها، وهي بالقيمة الشعبية السياسية التي تمنحها لكلّ من طرفي التوقيع عليها، فيكفي النظر إلى الحال الداخلية لكلّ من طرفي التوقيع على امتداد الجبهتين ورؤية مدى الثقة والشعور بالقوة والاستقرار السياسي والشعبي، لمعرفة المنتصر والمهزوم. فهل يبدو الداخل الأميركي و«الإسرائيلي» والسعودي والتركي مستقراً، وهل تبدو علاقات هذا الحلف البينية متصاعدة نحو التماسك والقوة، أم يبدو القلق وتنتشر الشكوك وترتفع أصوات الشكوى وينبري الموقعون يدافعون عن خيارهم باعتباره أفضل الممكن؟ وعلى الضفة المقابلة كيف تبدو حال الرئيس الروسي والقيادة الإيرانية والرئيس السوري وقائد المقاومة، مفعمة بالثقة والشعور بالاستقرار ومصادر القوة، أم جمع للقلق والخوف على المصير، وكيف تبدو علاقاتها البينية ملتبسة ومزروعة بالشكوك أم مفعمة بمنسوب الثقة واليقين بالتماسك؟
– أوباما يقول إنه لو ترشح لولاية ثالثة فسيفوز بها، فهل هي علامة الثقة أم هي الحجة المسبقة في حال فشل حزبه بالقول إن المشكلة في المرشح الذي يبدو أنه هيلاري كلينتون وليس في التفاهم النووي الذي يجهد أوباما وفريق لتسويقه لدى الأميركيين من جهة، وتوزيع التطمينات على الحلفاء المذعورين الذين ينامون على قلق ويصحون على آخر من جهة أخرى. في المقابل خرج كلّ من قائد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري وقائد المقاومة وقالوا كلاماً لا يحتاج تفسيراً ولا إضافة لكلامهم وما فاض منه كعلامات الشعور بالقوة والثقة والتماسك.