قراءة في «استراحة» علي جعفر العلاق شعريّةُ الخُلاصة في «وطن يتهجّى المطر»
محمّد صابر عبيد
في مجموعة علي جعفر العلاق الجديدة «وطنٌ يتهجّى المطر»، ثمّة عدد من القصائد ضمّها عنوان «هجرة ثالثة»، ومنها قصيدة «استراحة»، بمعنى أنّ ثلاثة عناوين تعمل داخل سياق العنوان الصغير لهذه القصيدة. ولعلّنا لو تدبّرنا فكرة التوازي أو التفاعل العنوانيّ معاً في الصورة التعاقبيّة المتسلسلة دلاليّاً «وطن/هجرة/استراحة»، سنجد أنّ التحوّل في القيمة الدلاليّة ينحو نحواً علائقيّاً في إدراك المعنى الشعريّ، ابتداءً من الفضاء الواسع المفتوح وصولاً إلى الفضاء الضيّق المحدود.
قصيدة «استراحة» على صعيد فكرة العنونة الصغيرة تستجيب للعنونة الوسطى «هجرة»، بوصفها صورة مجتزأة من صورها، إذ هي محطّة في طريق الـ«هجرة» التي لا بدّ منها من أجل المواصلة واستكمال الرؤية الجديدة خارج الوطن، فالوطن حين يغادره أبناؤه لأيّ سبب لا يبقى أمامه من وسيلة للتعبير عن فراغه سوى أن «يتهجّى المطر»، وتهجّي المطر هو نوع من قراءة يائسة للسماء وهي في حالة بللٍ «مُتمنّى» لتفسير المعادل الصحراويّ لها، والهجرة هي صحراء الوطن، والاستراحة واحة الهجرة ومطرها الرمزيّ المحتمل.
هذه العلاقة التفاعليّة بين العناوين «الكبير والأوسط والصغير» تقود حركة الدلالة الشعريّة نحو ما نصطلح عليه هنا بـ«الخُلاصة الشعريّة»، وتتجلّى هذه الخلاصة في متن قصيدة «استراحة» على نحو يظهر فيه الراوي الذاتيّ الشعريّ وهو يقصّ حكايته الشخصيّة في ما يُشبهُ المونولوج الداخليّ، بوصفها حكاية سيرذاتيّة تبدأ من الوطن الذي يتهجّى المطر، مارّة بالهجرة الثالثة، ومتمركزة في العنونة الرحبة «استراحة» كي تتيح فرصة للحكي والسرد ورواية الخُلاصة.
تبدأ اللقطة الأولى من القصيدة بحضور استهلاليّ تلخيصيّ يصوّر الحكاية في أعلى درجات اختزالها السيميائيّ، فهي خلاصة تتمركز في فاتحة القصيدة على هذا النحو:
أفركُ خيزرانتي بحفنةٍ
من الهواء
ثمّ أستريح…
اللقطة مكوّنة من ثلاث وحدات دلاليّة تشكّل مثلّث الصورة، الوحدة الأولى جملة الراوي الذاتيّ الشعريّ «أفركُ خيزرانتي»، وهي جملة شعريّة كاملة على الصعيدين النحويّ والدلاليّ والتشكيليّ، ويحيل فعل الفرك «أفرك» على رغبة ذاتيّة في الإزالة والاستبدال، إزالة جلد قديم واستبدال جلد جديد به، لتأتي «خيزرانتي» وقد نسبها الراوي إليه بياء النسب الظاهر كي تحيل على حركة التجربة، بما تتمتّع به الخيزرانة من استقامة ومرونة وأناقة وشفافيّة دالّةً تراثياً على صورة دفاعٍ ضمنيٍّ عن الذات، أمّا الوحدة الثانية «بحفنةٍ/من الهواءِ» فتشير إلى معنى الانتقاء والتخصيص والتقدير «حفنة»، ومعنى الانفتاح الحرّ على الطبيعة الجارية ذات الديمومة المستمرّة بديمومة الحياة واستمرارها «الهواء».
الوحدة الثالثة في هذه اللقطة تتمثّل في جملة «أستريحُ…» بعد أداة العطف «ثمّ»، وهي الوحدة التي تقفل صورة اللقطة على فرح الإنجاز، فالاستراحة إنّما تعني بلوغ مرحلة التغيير وإنجاز المهمة، على نحو يبعث على الراحة والطمأنينة، وثمّة تلاحم دلاليّ واضح بين جملة «أستريحُ..» والفضاء الدلاليّ المعلّق في عتبة العنوان «استراحة»، بما يقود إلى التوجّه نحو الاستقرار والمكوث «الخلاصة» على هامش « ثالثة» لا هجرة بعدها.
اللقطة الأولى من القصيدة تلدُ حكائيّاً اللقطةَ الثانيةَ على نحو سرديّ دراميّ، وتتعلّق اللقطة كلّها على المستوى الحكائيّ التمثيليّ بالفعل «يسقطُ»، وهو يستعرض مفردات الصورة على شكل ديكور تتوزّع عليه وتنتشر على أرضيّة الصورة:
يسقطُ حولي تعبٌ أبيضُ
ذاكَ مئزري مهلهلاً، وذلكم
خنجري الجريحُ…
الفعل المضارع «يسقطُ» يمثّل بوابة الصورة، لا سيما حين يتّصل مباشرة بالمحيط المكانيّ الذاتيّ للراوي الشعريّ «حولي»، لتظهر أوّل صورة من صور الديكور المنتقاة على مسرح الحادثة الشعريّة «تعبٌ أبيضُ»، وإذا كانت دلالة الموصوف «تعبٌ» قريبة التحليل والتأويل بحكم وضوحها الدلاليّ العام، فإنّ دلالة الصفة «أبيضُ» تنفتح على شبكة مداليل بحكم معناها اللونيّ الخاصّ واللالونيّ، وليس بوسعنا حصر هذه الشبكة الدلاليّة الواسعة للأبيض في هذا السياق، لكنّنا سنسعى إلى اقتناص اللحظة الدلاليّة الخاصّة بإشباع حاجة الموصوف «تعبٌ» للصفة «أبيضَ»، على نحو ما يقتضيه المقام الشعريّ هنا ونذهب إلى تحميل الصفة «أبيضَ» معنى الشعور بالرضا عن جوهر التجربة ومقتضياتها، بما يقدّم فكرة التعب بوصفها شكلاً من أشكال البحث واللذّة من أجل بلوغ صفة البياض، إذ حين يصير التعب أبيضَ يكفّ عن كونه تعباً، غير أنّه يترك شظاياه منتشرة على مسرح البحث واللذّة.
الصورتان الإشاريتان المنبعثتان من وحي التعب الأبيض تبرّران الحاجة إلى «استراحة»، الصورة الأولى «ذاكَ مئزري مهلهلاً،» تعكس الملل من تماسك المئزر لمواصلة الهجرة، حين تقدّم «هجرة ثالثة» نفسها بوصفها هجرةً أخيرةً، والصورة الثانية «وذلكم/خنجريَ الجريحُ..» تعكس إشكاليّة المعادلة حين يكون الجارحُ جريحاً. يحدث بعد ذلك نوع من الانحراف السرديّ في مسار الحكاية الشعريّة حين يلتفت الراوي الذاتيّ الشعريّ التفاتة استفهاميّة مفارِقة:
ماذا أرى؟
هذا السؤال عن ماهية الرؤية ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الاستفزاز والتحدّي والمفاجأة، إذ يتحوّل الخطاب الشعريّ إلى أسلوبيّة تعبيريّة أخرى تصويرياً وتشكيليّاً، لتظهر ثلاث لقطات شعريّة تتوازى مع اللقطات الثلاث الأولى قبل حصول هذا الانحراف الأسلوبيّ في مسار الحكاية الشعريّة، تخضع كلّها لسلطة رؤية الراوي الذاتيّ الشعريّ المكتظّة بالتفاصيل، واللقطات الثلاث تتراءى خلف الرائي/الراوي في شاشة الذاكرة، وتبدأ باللقطة الأولى عن الزمن الغامض:
ثمةَ ذكرى لغدٍ ملتبسٍ
تركْتُهُ خلفيَ..
تتشكّل الصورة من وحي الذاكرة «ذكرى»، راسمة شكل الزمن الماضي المنكّر الزاحف إلى المستقبل «غد» موصوفاً بالغموض والحيرة «ملتبس»، ومنعاً لمزيد من الحيرة والغموض يتوقّف الراوي عن سرد الصورة في جملة قاطعة «تركتُهُ خلفيَ..»، يتفاعل فيها فعل العزل «تركت» وظرف المكان «خلفي» لتكوين معالم الصورة القائمة على حلول الماضي في المستقبل «ثمةَ ذكرى لغدٍ ملتبسٍ»، والسعي إلى تجاوزه وإحلال زمن آخر مختلف بدلاً عنه، فعلامة الالتباس الزمنيّ الحاصل في دالّ «ذكرى» بين الماضي والمستقبل تتطلّب العزل والتغييب، من أجل الانتقال نحو اللقطة الثانية التي تمثّل الراهن المغاير في أجلى صوره:
ثمَ خيلٌ
ينعشني صهيلُها الصافي…
إنّ التشكيل العلاميّ للصورة في مضمونها الراهن هنا يكتظّ بشبكة من الدوالّ الإيجابية الحاضرة بديلاً لشكل الزمن الملتبس بين الماضي والمستقبل «خيلٌ/ينعشني/صهيلُها/الصافي..»، تنشحن هذه الدوال بطاقة تدليل عالية لتمثيل فكرة الحضور والتألّق من الدالّ الجمعيّ «خيلٌ» وهي تحيل إلى المجد والكبرياء والنصر، ودالّ الانتعاش الشخصيّ «ينعشني»، ودالّ الصوت الذي يحيل على رمز التحدّي، إلى دالّ الصفاء «الصافي»، وتسهم كلّها في تعضيد السياق الشعريّ الذاهب نحو إنعاش الراهن مقابل غياب التباس الماضي والمستقبل.
أمّا اللقطة الأخيرة من القصيدة فإنّها تستقلّ في دالّ واحد منكّر، لكنّه محمّل بقوّة تدليل هائلة مفتوحة على أفق غير محدّد:
وثم ريحُ..
ينتشر دالّ «ريح» على ما تبقّى من بياض السطر والورقة ليشغل القصيدة كلّها بالحركة والفعل والإثارة والاحتمال، وهو المتبقي الوحيد الذي لا يألو جهداً في المرور على جسد القصيدة وتزويدها بما ينقصها من طاقات تصوير وتدليل وتعبير وتشكيل، حيث تنتهي الـ«استراحة» وتعاود الهجرة الثالثة نشاطها في ظلّ وطن يتهجّى المطر.
النظام الإيقاعي المحكوم بتقفية ثلاثيّة متقنة «أستريحُ/الجريحُ/ريحُ» تعكس الحساسيّة الشعريّة الخاصّة، وهي تنفتح على امتداد صوت الحاء المضمومة على رحابة البحر الشعريّ في تفعيلاته المهيمنة، من أجل أعلى قدرٍ من التلاؤم والانسجام بين الفكرة، والعنوان، والإيقاع، على نحو تتحدّر فيه المعاني الشعريّة من قمّة الهرم العنوانيّ الأكبر «وطنٌ يتهجّى المطر»، وهو يطوف على العنوان الوسيط «هجرة ثالثة»، حتى يبلغ حافة العنوان الصغير «استراحة»، على نحو تتراكب فيه اللقطات والصور والإيقاع داخل جوهر الحكاية الشعريّة، لتعبّر عن مساحة عاطفيّة ووجدانيّة مكثّفة في سياق ثقل التجربة وعنفوانها، وتلخّصها في مراكز شعريّة خصبة بدوالّها ومداليلها ورمزيّتها السيرذاتيّة الثريّة.
يذكر أن «وطنٌ يتهجّى المطر»، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
كاتب عراقي