أهل الكهف… خلال عقدَيْن بتطوّر معكوس!

هاني الحلبي

كان قدوتي فتى الربيع! وما زال! استلهمه كلّما وقفت في وجهي كهوف مظلمة يخرج منها أشباح زومبي بشرية أو عارضتني جدران صماء أو عقبات كؤود.

تلك الفتوّة التي لا تستأذن الأكمام حتى تفتحها وتخرج للضوء.

تلك القوة التي متى استكملت نموها وتحسست فعلها انطلقت تفعل بما اعطيت وتفرض حضورها ليكون الجديد.

الثلاثاء الماضي يتصل بي رفيق شباب وفكر، بصفتي المهنية، ليخبرني أن «غدُنا» جمعية فنية مستقلة دعت لمعرض فني في إحدى قرى منطقة راشيا، ويكون الافتتاح الساعة الخامسة مساء نهار الأربعاء الماضي. وكان الصديق هو الوسيط بين الجمعية وبين رئيس البلدية الدكتور. سأل صديقي رئيس البلدية مرات عدة عن جوابه على استئذان الجمعية لاستخدام القاعة العامة في البلدة، فوعده خيراً. لكن الدكتور الهمّام كمن جوابه حتى مساء الثلاثاء، قبيل الافتتاح المدعوّ له بيوم واحد، ليبلغ الصديق رفضه باستعمال قاعة البلدة لمعرض فني.

لا ندري كم يخدش الحياء تمثال من فخار لهنيبعل، أو نصب من صلصال لسلطان الأطرش أو يوسف العظمة أو لأسرحدون أو أيقونات كنعانية استعادها الفنان والنحات الكبير عارف أبو لطيف لتصبح تحفنا في بيوتنا ومكاتبنا فنستعيد بعض ما صنعت أيدي الأجداد.

لا ندري في ماذا يعيق معرضٌ فنيٌ استراتيجيته «التقدمية» يرتفع فيه تمثال من صخر حرموني بإزميل الفنان الجميل وائل أبو عاصي لربّة الجمال عشتار، سيدة الحب والحرب، وروح الجمال والخصب وملهمة كلّ فن في هذه العالم الداعشي الكسيح بالتخلف السياسي الإقطاعي الكالح.

لا ندري في ماذا تغيض رئيس البلدية، لوحات لمّاحة للدكتور أمير سلامة، او للفنان عارف أسعد مهنا، أو لغيرهم ممن انتموا للون والضوء والدهشة وأحبّوا أن تلتمع بين روابي أدمنتون لبنان!

هل كان يريد رئيس البلدية أن تقيم الجمعية معرضاً فيه نصوب لأهل السياسة وأوابدها، أن تقيم أيقونات لعفن السياسة التحاصصي التي حوّلت شعبنا قطيعاً ليرضى عليهم، فيقدمون لها هدايا الزيت والطاعة؟

ذكّرني ضيق أفق الدكتور العتيد، بواقعة تكرّرت معنا في البلدة نفسها، لكن العام 1991. سألني حينذاك صديقي وأصدقاء آخرون إن كان ممكناً إعطاء دورة في فنون القتال لشباب البلدة ومَن يرغب قلت طبعاً. بعد الاتفاق على التفاصيل وأهمها المكان وكيفية التنقل مرتين أسبوعياً بين قرى نائية، فتعهّدوا بكل ما يلزم.

لكن بعد توزيع الدعوة سارت بين أوساط المشايخ فكرة أن هذا العمل منافٍ للآداب، فكيف يجوز أن يرفع أحدنا قدمه في وجه الآخر، والقدم نتنة وضيعة بينما الرأس مقدّس لأنه موضع العقل، كما يظنون! خطرت لي حينها بلاهة حساب الجُمّل أمام عظمة الرياضيات!

وانتشر قرار بين أهل البلدة أنه ممنوعة إقامة الدورة!

أتى إليّ الأصدقاء منكسفين وفي نيتهم إيقاف الدعوة! سألتهم كم عددكم قالوا صرنا مئة شاب! سألتهم من العائلات كافة ومن مختلف التوجّهات السياسية؟ قالوا نعم! قلت صرنا قوة مهيبة ويمكننا فرض الدورة ولو كانت في العراء، ما دام الطقس صيفاً ونحن نتدرّب على فن قتال فيه تخشّن حقيقي، وليس فيه فسحة للدلع!

قالوا كيف؟ قلت حدّدوا وقتاً نبدأ في ملعب المدرسة، وإذا رأينا مناسباً نفتح باب القاعة، وربما يخجل مَن يسمّون «رجال الدين» بما يرتكبون فيرسلون من يفتح بابها!

ونصحتهم بقراءة فتى الربيع! قالوا أين؟ قلت هوذا في مجموعة مقالات جبران خليل جبران! قرأنا النص فانتعشت أرواحنا مجدداً بعزم شاب كانت بدايته بفتح القاعة عينها عنوة للدورة.

شهران من التدريب حتى أواخر كانون الأول. آخرها كنا صرنا عشرات نتدرّب والثلج ينسف خارج منزل الصديق فؤاد ياغي، الذي استضاف الجزء الثاني من الدورة بعدما فتحت المدرسة أبوابها في أيلول. بل ونزل المرحوم فؤاد وبناته يتدربون معناً.

مرة سأل أحدهم عن الصبر؟ قال المدرّب إليك الجواب. فطلب دلو ماء فيه بعض الجليد ورفعه فوق رأسه وبلحظة دلقه كاملاً. دُهش الزملاء أنهم لم يروا ارتعاشة أو شهقة نَفَس للمدرب في ما شاهدوا بل بسمة غامرة من الفرح ودفئاً آخر كانوا لم يهتدوا بعد إليه!

باحث وناشر موقعَي حرمون haramoon.org/ar والسوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى