أولى

إما سلطة القانون وإما شريعة الغاب

 بشارة مرهج*

بعد انفجار الأزمة المالية النقدية في لبنان إثر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 المباركة اتخذ القضاء اللبناني تحت ضغط السياسيين والمصرفيين قراراً بمعاملة البنوك معاملة خاصة، سواء في ما يعود لدفع حقوق المودعين، أو سواها من المعاملات المصرفية مما عطّل عملياً قانون النقد والتسليف وأطلق يد القطاع المصرفي، بقيادة حاكم مصرف لبنان، للتصرف كيفياً بخصوص المعاملات المصرفية.

استند القضاء في قراراته الموحى بها من أهل السياسة والمال على أنّ المصلحة تقتضي إعطاء المصارف فرصة استثنائية لترتيب أوضاعها وإعادة الأمور الى نصابها كي تتمكن من تأمين مصالح المودعين اللبنانيين والعرب والأجانب، وبما يحفظ سمعة لبنان ويخدم الاقتصاد اللبناني.

اتخذ قطاع المصارف، الذي كان يدرك حجم الأزمة وخطورتها، من قرارات القضاء وتوجهاته خيمة لتحقيق أغراضه والتنكر لحقوق الناس وثرواتهم ومدّخراتهم.

فالمصارف كانت تدرك أنّ العمل بقانون النقد والتسليف والقانون التجاري يؤدّي مباشرة الى تحميل مسؤولية التوقف عن الدفع لأصحابها وكبار مساهميها ومدرائها، مثلما يؤدّي الى وضع اليد عليها واللجوء الى قانون 1967 الذي ينظم إفلاس المصارف عبر لجنة مختصة لتصفية البنك بالاستناد الى رأسماله وموجوداته، في حين انه إذا انكشف الإفلاس عن جرم احتيال أو سوء إدارة يتعرّض أصحاب البنك وكبار مساهميه ومدراؤه للملاحقة القانونية.

لقد حاول قضاة لبنانيون مميّزون مقاومة محاولة تعطيل القضاء في القطاع المصرفي فأصدروا أحكاماً تقرّ بحقوق المودعين وتفرض على المصارف تسليم الودائع. إلا أنّ الجسم القضائي العام مع الدولة العميقة كانا دائماً يتصدّيان لتلك المحاولات والعمل على إسقاطها في متاهات النصوص وتضارب الصلاحيات. والكلّ يذكر انه عندما استُدعيَ رياض سلامه منذ أشهر للمساءلة من قبل القضاء اللبناني استكمالاً لما يجري في بلدان أوروبية عديدة هبّت مراجع دينية وسياسية وديبلوماسية ترفض هذا الاستدعاء وتهدّد بالويل والثبور، رغم أنّ هذه المراجع غالباً ما تتحدث عن المساواة بين المواطنين وإعلاء شأن القانون ومحاربة الفساد. غير أنّ أبرز ما شهده لبنان بالأمس هو تكرار لما شهده لبنان في الماضي القريب، حيث تقول الأنباء ـ اذا صدقت ـ إنّ شخصيات مرموقة تصدّت لقرار قضائي جديد يستدعي حاكم البنك المركزي للمساءلة في قضية الشركة التي يملكها أخوه والتي منحها الحاكم معاملة خاصة وعقوداً مربحة على مدى سنوات لتسويق سندات الخزينة التي كانت تفقد من الأسواق بمجرد إصدارها بسبب ارتفاع فوائدها وتقاسمها مسبقاً بين البنوك وبعض رجال الأعمال اللبنانيين وشخصيات عربية بتوصية من الحاكم نفسه.

لقد شكل هذا الموقف الجديد برفض خضوع رياض سلامة للمساءلة القضائية صدمة كبيرة للأسواق اللبنانية والخارجية التي تعتبر هذا الموقف مُضراً بسمعة لبنان ومصلحته على غير صعيد، خاصة على صعيد التعامل المالي الذي ينبغي أن يكون خاضعاً لسلطة القضاء سواء كان في الداخل أو في الخارج.

فحاكم البنك المركزي مهما بلغت مكانته في الدولة إلا انه يبقى موظفاً كبيراً يجب أن يكون خاضعاً لسلطة القضاء وسلطة مجلس الوزراء وإلا تكرّست المحميات والفدراليات داخل الدولة، التي فوق تقصيرها الفاضح في حماية مصالح المواطنين تصرّ عبر قياداتها على تعطيل القانون والتمييز بين الموظفين كما بين المواطنين، وكأنّ لبنان بلد مارق ودولة فاشلة لا تعترف بمؤسّسات أو دستور أو قانون.

إنّ المسؤولين هم أكثر الناس علماً بنتائج مثل هذه التدخلات التي تمنع العدالة من أن تأخذ مجراها وتجعل من الدولة مطية للعمل من خارج أحكام الدستور والقانون. فهذه التدخلات لا تمسّ سلامة القضاء ومناعته في الصميم وإنما تمسّ أيضاً وبالقدر نفسه المجلس النيابي الذي اصدر هذه القوانين بهدف تنفيذها وليس بهدف تجاوزها أو السخرية منها.

إنّ الذي يريد إنقاذ البلاد ودولتها ومؤسّساتها يلجأ أولاً الى المباشرة في التحقيق الجنائي المحاسبي وتفعيل القوانين وليس إلى تعطيلها، لأّنّ تفعيل القوانين يلزم الموظفين والمواطنين بالعمل ضمن الأطر المسموحة في مناخ من المساواة والمنافسة بما ينهض بالمجتمع واقتصاده ومؤسساته، في حين أنّ تجاوز القانون وتنحيته جانباً يفكك بنيان الدولة ويزرع اليأس بين صفوف المواطنين والمستثمرين والمغتربين ويشكل ضوءاً أخضر لجماعات النهب والفساد للمضيّ في غيّها وظلمها للإجهاز على ما تبقى في هذا البلد الجريح من خير وبركة وفطرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى