حديث الجمعة

هويتي

كلّما مرّت السنون، زادت المسافات في ذاكرتي اتّساعاً، إلا تلك الأشياء التي تعلّمتها من أبي وحفرت في ذاكرتي خرائط المعرفة، كلّما مرّ عليها الزمن طعنت بالضوء وتقلّصت المسافات بيني وبينها لتصير أقرب من حاضري إليّ.. ومن تلك الأشياء التي تركت بصماتها في مخيّلتي وذاكرتي، مقطع من رسالة كان قد أرسلها أبي إلى أمي من بلاد الاغتراب (باريس) شاكياً لها مرارة الغربة والحنين.. وقد قال في ختام رسالته التي كانت منذ حوالي ١٦ عاماً:

“وملامحي العربية تأبى أن تُمسحَ عن جبهتي السّمراء فسِرتُ في شوارع باريس منتصب القامة كأحدِ الأمراء.. فما أحزنني على واقع العروبة المرير وقد جعلني الغربُ في قبضته مستسلماً كالأسير.. في لحظة تأمّل سرت في شوارع صيدا القديمة لأحيي صديقاً بنيّةٍ سليمة.. في لحظة تأمّل نظرت إلى أسوار القلعة البحرية فخلتُ بابها يقول لي بكلّ سخرية.. “أهلاً بك أيّها القادم من باريس.. كيف وجدت برج إيفل في عالم الفراديس وكيف وجدت علوّه بالارتفاع والمقاييس؟ اسمع يا هذا.. برج إيفل يزيدني علوّاً وارتفاعاً لكنه معرّض للزلازل والهزّات أما قلعتي فخالدة مع لبنان والأرزات.. أنا موطأ قدمٍ لأبطال الزّمان، أنا صورة عزّ ومجد للبنان.. تعالَ.. تعال يا بنيّ ولا تخجل من الحاضر وليبقَ وجهك إلى العلاء شامخا… أتعلم من يجلس على حافتي هناك؟ إنه معروف.. ما زال يرمق الصيادين في عرض البحر بعطف وحنان..

وإذا بي أستيقظ من تأمّلاتي على أغنية: «شدو الهمة الهمة قوية مركب ينده ع البحرية، يا بحرية هيلا هيلاااا… «.

كلّما شعرت بالحنين إلى وطني يا أبي، أرحل إلى غربتك فأجده.

ناريمان علوش

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى