مقالات وآراء

هل يُقلع اللبنانيون عن عصبياتهم الطائفية ويذهبون إلى بناء دولة وطنية؟

د. عدنان نجيب الدين
نجح الزعماء الطائفيون في لبنان بتظهير صراعاتهم على أنها صراعات بين الطوائف والمذاهب، وصدّق اللبنانيون كذبهم وانبرى كلّ لبناني للدفاع عن زعيمه معتبراً دفاعه عنه دفاعاً عن طائفته وعن وجودها وقيَمها، وكأنها مهدّدة من الطوائف الأخرى.
ولو حاولنا تشخيص جوهر الصراع في لبنان حول ايّ من الملفات أو المواضيع التي يجري حولها الصراع، لوجدنا أنّ اللبنانيين جميعهم قد خُدعوا من قبل زعمائهم وضُللوا، لانّ جوهر الصراع هو تناقض المصالح ليس بين الطوائف بل بين من يدّعون الحرص عليها من هؤلاء الزعماء الذين يتنافسون على جني المكاسب من خلال الإمساك بالسلطة وجعلها أداة للتحكم باللبنانيين وبلقمة عيشهم حتى جعلوهم فقراء محتاجين يذلون أنفسهم على أبواب من يفترض بهم أنهم جاؤوا إلى السلطة لخدمتهم والتصدي لمشاكلهم وتحسين ظروف عيشهم.
وحاول الزعماء الاستناد الى فقرة وردت في دستور الطائف تقول ان لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك. وهكذا قاموا بترجمة هذه المادة من الدستور واعتبروها أساساً لممارستهم السلطة والتشارك فيها على قاعدة توزع مغانم الحكم في ما بينهم باعتبار انهم ينتمون إلى طوائف ومذاهب تعيش على أرض هذا الوطن. وهنا نسأل: ماذا استفاد اللبنانيون من خلال تمثيلهم في دولة الطوائف والمذاهب سواء في المجالس النيابية أو في الحكومات على مدى الحقبة الماضية من تاريخ لبنان؟
الجواب يعرفه اللبنانيون بالبديهة والمشاهدة الحسّية، حيث وصلوا إلى أدنى درجات الفقر من خلال سرقة ودائعهم في المصارف من قبل سلطات مصرفية وحكومية، كما حُرموا من كافة الخدمات وسائر شروط العيش الكريم، وليس انعدام وجود الكهرباء وكلّ الخدمات الأخرى سوى نموذج للإخلال بواجبات الحكم وممارسة السلطة. فلو كان هناك قانون انتخابات غير طائفي يقوم على تمثيل القطاعات الإنتاجية بدل الطائفية لتغيّرت الأوضاع كلياً، فالصراع الديموقراطي كان يجب أن يلعب دوره الحقيقي وان لا يتخذ طابعاً طائفياً لكي يبقى صراعاً سلمياً مطلبياً بين أصحاب الاحتكارات والفئات المسيطرة على اقتصاد البلد والممسكة برقاب العمال والمزارعين والموظفين وبلقمة عيش المواطن وبين الأغلبية الساحقة من الشعب المحروم من حقوقه واحتياجاته المعيشية. وعندها سيجتمع أبناء القطاعات الإنتاجية ويتوحدون تحت راية مطالبهم المعيشية، ولن تفرّق التمايزات الطائفية في ما بينهم لأنها تصبح غير ذات اهمية، وهكذا تنتفي التوترات أو الاحتقانات ذات الطابع الديني، ويصبح الهمّ المعيشي والوطني هو المحرك في السياسة اللبنانية، ولن يعود باستطاعة ايّ خلاف بين زعيم من هذه الطائفة وزعيم من تلك الطائفة أن يؤدي إلى تجييش الغرائز للدفاع عن ايّ منهما حتى وانْ كان فاسداً كما يحصل اليوم.
من هنا نجد أنّ توزع المناصب السياسية والإدارية بين الطوائف ليس بأمر حكيم لبلد يريد أن يبني دولته ومؤسساته من خلال رؤية حديثة في بناء الدول. لانّ النظرة إلى الشعب واعتباره قطعاناً طائفية هي نظرة خاطئة، والخطأ الأكبر كان في تكريس هذا المفهوم لدى عامة الناس. وطالما أنّ النظام السياسي الطائفي قائماً سيبقى الصراع يأخذ هذا البعد الطائفي، وسيبقى اللبنانيون يعيشون مرارة الحياة بما يؤدّي إلى حروب أهلية بشكل دوري، لأنّ تشخيص الأزمات كان تشخيصاً خاطئاً وما زال.
وهكذا، بعدما جرى الإجهاز على معظم زعامات الإقطاع والسياسيين التقليديين بانتهاء الحرب التي سُمّيت أهلية بين العامين 1975 و1990، وبعد ان غاب عن العمل السياسي بعض القامات التي خدمت بلدها بإخلاص ونزاهة، وجاء إلى السلطة زعماء ممن شاركوا في تلك الحرب، برز عندنا إقطاع جديد من نوع آخر هو أكثر توحشاً وتخلفاً، وصارت لقمة عيش المواطن بيد هؤلاء الزعماء بدل ان تكون حقاً لهم من خلال عملهم الذي تشرف على تنظيمه دولة وطنية عادلة وسلطة واعية تمتلك الحكمة والرؤية الاقتصادية والاجتماعية وتحسن إدارة شؤون الناس وتخطط لخير المجتمع واستقراره، وترسم السياسات المستقبلية لوطن حر مزدهر، وشعب آمن يتعاون أفراده على بناء الدولة وصيانتها، ويأمن فيها على حاضره ومستقبل أولاده. لكن للأسف، غاب العمل السياسي السليم الذي يجب أن يقوم على التخطيط العلمي الاقتصادي وعلى مبادئ الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان. والأسوأ من ذلك، جرى الإخلال بمفاهيم ثلاث هي: الوطن، والمواطن، والوطنية، لتحلّ محلها المصالح الشخصية والزبائنية والفساد السياسي والإداري. كما حلت بدعة جديدة هي الديموقراطية التوافقية بدل الديموقراطية الحقيقية التي تحاسب المسؤولين الفاسدين وتمنعهم من استغلال النفوذ والسلطة.
وكما هو معروف، فعندما تنشأ الصراعات بين الأفراد والجماعات، انطلاقاً من اختلاف المصالح او اختلاف المبادئ والرؤى، تكون الدولة هي الحكم. لكن إذا كانت الصراعات تنشأ داخل الدولة بين الممسكين بالسلطة فيها، تخسر الدولة دور الحكم وتصبح مشلعة الأجزاء، وهنا تصبح بحاجة إلى من يعيد إليها وحدتها ودورها في حفظ الأمن والسلم الأهلي وإعادة تشغيل المؤسسات بنمط يعيد عجلة الدولة إلى الدوران من جديد. وغالباً ما يكون الخارج هو الضابط لإيقاع سير الأمور بين السياسيين تبعاً لمصالحه. ولهذا نجد أنّ زعماء هذه الدولة المشلعة التي جرى العبث بأسسها وركائزها الطائفية نتيجة الأطماع والصراعات في ما بينهم، لا يتورّعون عن تخريبها من الداخل، فيلجأ كلّ زعيم الى رفع الصوت مستغيثاً بأبناء طائفته ومحرّضاً لهم على زعيم من طائفة أخرى طالباً مساندته ودعمه بحجة مواجهة الخطر الداهم والمهدّد لوجود طائفته، وهو إذ يفعل هذا فمن أجل التهرّب من المحاسبة الشعبية لأنه فاشل، او المحاسبة القانونية لأنه أخلّ بواجباته العامة. وهكذا يصبح الهمّ الأوحد لأبناء الطائفة او المذهب ليس مساءلة زعماء الدولة عن هدر حقوقهم بالخدمات وتأمين فرص العمل والتعليم والاستشفاء والشيخوخة مثلاً، بل الدفاع عن زعيمهم الذي أقنعهم بأنّ الإطاحة به تعني الإطاحة بالطائفة بكاملها، ولذلك بجب ان يبقى في موقعه قوياً متربعاً على كرسيه لتصبح الطائفة بأمان.
للأسف، هذا هو واقع الحال في لبنان. فكيف إذن، ننتهي من هذه الدوامة التي يعيش فيها اللبنانيون منذ تأسيس هذا الوطن؟
لا نريد اجتراح المعجزات لحلّ مسألة النظام أو مسألة الحكم، لقد جرت في السابق عدة محاولات لإصلاح النظام ومنها اتفاق الطائف المليء بالعيوب والثغرات، باءت كلها بالفشل، بقي شيء واحد هو إعادة هيكلة الدولة وبنائها على أساس وطني لا طائفي. فكيف الوصول لهذا الهدف؟ المطلوب واحد وهو الوعي. فكيف نحصل على هذا الوعي؟
لسنا بحاجة إلى أن يكون كلّ مواطن ضليعاً في الفلسفة السياسية لبناء الكيانات الوطنية، ولا في علم الاقتصاد، ولا في فلسفة الحكم والإدارة، كلّ ما علينا هو أن يعود كلّ مواطن إلى نفسه ليسألها: هل استطاع هذا النظام المتخلف او ولاء أبناء الطوائف لزعمائهم أن يجنّبهم كلّ هذه الكوارث التي ابتلوا بها والتي تتلخص بتقويض أسس الكيان وانعدام أبسط الحاجات المعيشية للشعب؟
ولو سأل المواطن زعيمه: لماذا فشلت أيها الزعيم الذي انتخبناك ومحضناك ثقتنا طيلة السنين الماضية في تأمين سبل المعيشة الكريمة والحياة الآمنة المستقرّة لنا ولأولادنا، ولماذا فقد اللبناني ثقته بدولته وسياسييها، يجيبه زعيمه متحسّراً: “ما خلونا” وهذه العبارة ينطق بها كلّ من تعرّض للمساءلة من قبل جماعته.
هذا الجواب يعني أمرين: إما انك فاشل يا أيها الزعيم، وبالتالي لا تستحقّ ثقتنا وعليك ان تخرج من العمل السياسي، وإما انك نرجسي وفاسد ومخطئ بحق أهلك ووطنك، بل ومتواطئ مع غيرك من الزعماء في تقاسم مغانم الحكم وهدر المال العام وسرقة ثروات اللبنانيبن وجنى أعمارهم. وبالتالي عليك أن تواجه القضاء كي يحاكمك بتهمة سوء الائتمان والإخلال بالواجبات. لذلك ندعو القضاء الذي يسمع أنين الفقراء وشكواهم، ويرى انعدام الخدمات وهدر أموال الشعب وسرقة ودائعهم، إلى أن يمارس واجباته ويحاكم المسؤولين.
وختاماً نقول، انّ الصراع الدائر اليوم في لبنان ليس بين الطوائف والمذاهب، إنما هو صراع بين مستغلي السلطة والنفوذ من أشخاص ادّعوا زوراً أنهم رجال دولة بينما هم طغمة فاسدة لا ضمير عندهم ولا كفاءة إلا بالنصب على المواطنين. وهؤلاء السياسيون الفاسدون ينتمون إلى كلّ الطوائف والمذاهب، وهم شركاء في إفلاس الدولة والشعب.
ومن هنا نقول الى بعض رجال الدين انّ المحاسبة القضائية تكون للمرتكب من السياسيين وليس لطائفته. فلينزعوا، هم وأبناء الطوائف، الشرعية عن المسؤولين الفاسدين، وليخضع كلّ مسؤول فاسد للمحاكمة لاسترداد الأموال العامة التي هدرها أو سرقها لتعود للمواطن حقوقه المنهوبة.
ما نقوله هنا يمثل الحدّ الأدنى لبدء مسيرة الإصلاح، أما قيامة الوطن وصون استقلاله وإعلاء سيادة القانون فيه، فتقتضي إعادة هيكلة النظام السياسي على أسس وطنية ديموقراطية حقيقية لبناء دولة حديثة صادقة مع شعبها وذات كفاءة ونزاهة، يكون المواطن فيها سيداً لا عبداً عند الزعيم، ايّ أن يكون مواطناً كامل الحقوق، منتمياً إلى دولته الوطنية هذه بالمواطنة، دولة تؤمّن له الدفاع عن أرضه ووجوده عليها، وتؤمّن له الرعاية وكرامة العيش. ويجب أن يكون الإيمان بالدين أو العقيدة التي يعتنقها المواطن دافعاً له لاحترام دولته وقوانينها.
اذن، علينا كلبنانيين ان نفهم انّ الصراع بين الزعماء ليس صراعاً بين الطوائف والمذاهب، لأن ليس هناك من طائفة أو جماعة دينية أو مذهبية تريد تغيير عقيدة ايّ من المنتمين إلى ديانة أو مذهب مختلف عن ديانتها ومذهبها. ويجب أن ننتهي من المتاجرين بالدين وحقوق الطوائف. فليطمئن كلّ لبناني على مصيره وعقيدته وحقه في ممارسة طقوسه، لكن لا يجب أن بكون هناك من يستعلي على الآخر، فكلكم لآدم وآدم من تراب. وعليه، فليحذر كلّ لبناني من تجار الأديان والمذاهب. فعندما يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات في ظلّ دولة وطنية ديموقراطية لا طائفية، لن يكون فيها ايّ مواطن خاسراً ولا خائفاً، لأنّ المعيار فيها لن يكون توزيع المناصب والمسؤوليات على أبناء الطوائف والمذاهب بحسب قربهم من هذا الزعيم أو ذاك، بل على أصحاب العلم والمهارة والكفاءة من الشرفاء في كلّ الطوائف والمذاهب ايّ على كلّ من هو جدير بتولي المسؤولية. ولكي نصل إلى هذا الهدف، علينا البدء بتأسيس النظام السياسي الجديد الذي نطمح إليه، ابتداء من منع تشكيل ايّ حزب سياسي على أساس ديني، بل على أساس برامج حكم وطنية، فالدين لله، أما السياسة فهي لمن يجد في نفسه الأهلية والنزاهة والترفع عن المصالح الخاصة وعدم الارتهان لمشغل خارجي، لأنّ خدمة البلاد وإدارة شؤون الناس لا تكون إلا انطلاقاً من شعور بالمسؤولية تجاه الوطن وحفظ سيادته ومصالح المواطنين، ولا يكون العمل إلا من ضمن مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي تربوي يخدم كلّ المواطنين وعلى امتداد الوطن. وهكذا يصبح الخطاب السياسي خطاباً وطنياً ينتقل بالوطن والشعب إلى حالة من الاستقرار والأمان والازدهار.
بهذه الرؤية ننفذ الوطن من الضياع، وننفذ الشعب من حياة البؤس والشقاء والحرمان ليكون شعباً سعيداً في وطن سعيد.
فهل من مرشح لرئاسة الجمهورية اليوم يحمل مشروعاً سياسياً نهضوياً لبناء دولة وطنية بعيداً عن المحاصصات الطائفية والمذهبية؟ وهل اقتنع اللبنانيون أخيراً، وبعد كلّ هذه المعاناة التي يعيشونها، بضرورة الإقلاع عن عصبياتهم والذهاب معاً إلى بناء دولتهم الوطنية؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى