أولى

لبنان: فوضى قانونية فهل تنقلب الى ميدانية؟

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
من يتابع مجريات الحركة السياسية في لبنان ومواقف الأطراف منها ومن المواضيع المطروحة، يجد أنّ لبنان أمام فوضى في فهم المفاهيم الدستورية والقانونية وانّ السلوك الغالب فيه هو الإفتاء بالرأي والتفسير حسب المصلحة بعيداً عن روح الدستور وفلسفته أو نصه وحرفية مواده، وانّ أخطر وأهمّ ما يتمّ التعاطي فيه هو ما يتعلق بعمل السلطات الدستورية الثلاث وسلوك المؤسسات التي تتولى هذه السلطات بدءاً بمجلس النواب ومجلس الوزراء وانتهاء بالسلطة القضائية.
ونبدأ مع مجلس النواب الذي يتولى سلطات التشريع ومراقبة الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية مع سلطة استثنائية هي التحقيق والمساهمة في محاكمة الرؤساء والوزراء، وأخطر ما يواجهه هذا المجلس الآن هو ما يتصل بانتخاب رئيس الجمهورية وعجزه عن تنفيذه كما حقه في التشريع في ظلّ حكومة مستقيلة وخلو في سدة رئاسة جمهورية.
ففي المسالة الأولى تتعالى أصوات تطالب النواب البقاء في القاعة العامة للمجلس وتوفير نصاب دائم وتكرار عملية الانتخاب حتى الوصول الى انتخاب رئيس. موقف قد يغري البعض بالتسليم بصوابتيه قياساً على ما يحصل في انتخاب مراكز كهنوتية «يُحبس» فيها المطارنة حتى ينجحوا في انتخاب البطريرك، لكن الدستور اللبناني بنصه وروحه يختلف عن النظام الكنسي، فإذا كان المطران ملزماً بالمكوث في حجرة الانتخاب حتى ينجز المطلوب منه. فإنّ النائب غير ملزم بحضور جلسة انتخاب الرئيس لأنّ النائب يمارس حقه وصلاحيته حيال الجلسة عبر محطتين الأولى عبر الحضور وتوفير النصاب الدستوري للجلسة والثانية عبر التصويت لاختيار الاسم الذي سيقترع له، ويجب ان يكون حراً طليق الإرادة في الأمرين.
فتوفير النصاب او تعطيله هو حق دستوري معطى للنائب وخاصة ممن هم في عداد الأقلية النيابية ليتمكن من ان يساهم في مراقبة أو ضبط عمل مجلس النواب كمؤسسة فإذا عجزت تلك الأقلية عن بلوغ مرامها في انتخاب من تختار للرئاسة فإنّ الدستور أعطاها من خلال النصاب حقّ منع الآخرين من إنجاح مرشحهم عبر تعطيل نصاب الجلسات، وهذا الأمر مهمّ جداً لأنه يشكل حافزاً لتفاهم القوى التي يتكوّن منها مجلس النواب وحثاً لهم على التوافق في ظلّ ديمقراطية توافقية يُقال انّ لبنان اعتمدها. وبالتالي فإنّ القول بوجوب حضور الجلسات خلافاً للإرادة والاختيار يُعتبر انتهاكاً لحق النائب في ممارسة صلاحياته تلك. فالنائب له الحق في ان يحضر الجلسة او يتغيب بعذر معلن او بغير عذر، وله ان يمارس حق الاقتراع او يمتنع عنه عبر التصويت بالورقة البيضاء، وكلّ قول خلاف ذلك يشكل انتهاكا لحق النائب الدستوري،
أما الموقف الثاني فهو ما يتعلق بحق التشريع في ظلّ حكومة مستقيلة او غياب رئيس جمهورية، خاصة أنّ القوانين التي قد تعتمد تكون إما بناء لاقتراح من نائب او مشروع من الحكومة، وانّ لرئيس الجمهورية الحقّ بردّ القوانين التي يقرّها مجلس النواب ولمرة واحدة، فهل للحكومة المستقيلة التي تقوم بتصريف الأعمال في إطار ضيّق، هل لها ان تجتمع في مجلس وزراء وتحيل الى مجلس النواب مشاريع قوانين؟ ثم هل لها في ممارستها لصلاحية الرئيس ان تردّ القوانين بعد إقرارها؟ فإذا عجزت عن الأمر تفرض على التشريع ان يتوقف؟
في الإجابة نقول انّ مجلس النواب سلطة دستورية قائمة بذاتها وسيدة نفسها وغير خاضعة لمراقبة أحد إلا الشعب الذي يمارس رقابته عليها في مكان واحد هو صندوق الاقتراع، ولا مجال لأحد سواه ان يمارس هذه الرقابة، وقد عزز دستور الطائف هذه الاستقلالية والسيادة الذاتية لمجلس النواب في لبنان ومنع الحكومة من حله إلا في حال امتنع عن إقرار الموازنة التي تحيلها الحكومة اليه في الموعد الدستوري، هذا الواقع الدستوري والقانوني يقودنا الى القول بأنّ عجز السلطة التنفيذية بعنوانيها رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء عن ممارسة صلاحياتها في مقابل مجلس النواب ليس من شأنه ان يعطل عمل مجلس النواب الذي يبقى له كامل الحق في ممارسة سلطة التشريع دون ان تتأثر بواقع رئاسة الجمهورية او مجلس الوزراء.
أما الحكومة المستقيلة في ظلّ خلو سدة الرئاسة فإنّ عليها أن تعمل في نطاق مبادئ وأحكام الدستور الذي يقيّدها بـ «النطاق الضيق لتصريف الأعمال» من جهة، وبمبدأ “استمرارية المرفق العام» ومبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» من جهة ثانية، وهنا نرى انّ حال الضرورة التي تبيح المحظور تتشكل إذا كان موضوعها طارئاً وكان تأجيله مرهقاً او منتجاً لخسارة لا يمكن دفعها، أما ممارسة صلاحية الرئيس وكالة فإنها منوطة بمجلس الوزراء وليس بالوزراء وهناك فارق كبير بين الأمرين.
فعندما ينص الدستور على انّ «مجلس الوزراء مجتمعاً» هو من تناط به وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية فإنه يعني المؤسسة وليس الوزراء أيّ المؤسسة التي تنعقد وفقاً للدستور ولنظامها الداخلي وتتخذ المواقف والقرارات وفقاً لأحكامهما، وفي ظلّ هذا النص نرى ان ما يتمّ تداوله من بدعة المراسيم الجوالة او الموافقات الاستثنائية او توقيع كامل أعضاء الحكومة على الصك الخطي دون انعقاد مجلس الوزراء كلها لا تنتج قراراً او مرسوماً صحيحاً، وهي بدع تخالف الدستور القائم، فمجلس الوزراء الذي أنيطت به وكالة صلاحية رئيس الجمهورية ـ وبدقة أكثر ـ بعض صلاحيات الرئيس لا يستطيع ان يضطلع بتلك الصلاحيات ويتحمّل مسؤولياتها فيها انْ لم ينعقد ويتخذ قرارته أصولاً، ولا تكون شرعية او دستورية لقرار او ما يسمّى مرسوماً إنْ لم يكن صادراً عن مجلس الوزراء المنعقد تلبية لدعوة وجهت اليه من قبل السلطة الصالحة، ومرفقة بجدول الأعمال ومُبلغاً للوزراء قبل ٤٨ ساعة من التاريخ المحدّد للانعقاد، وان يتوفر له نصاب الثلثين من الوزراء، وان يتمّ التوافق على القرار بالإجماع او ينال المشروع المدرج على جدول الأعمال أحدى الأكثريتين عند التصويت (الثلثين او المطلقة بحسب الموضوع).
فهذه هي الآلية الدستورية الوحيدة لممارسة مجلس الوزراء صلاحياته وما عداها يكون هرطقة دستورية لا محلّ لها في النظام اللبناني الذي حسم الموضوع بنص واضح على «مجلس الوزراء مجتمعاً» أيّ منعقداً (هنا ننوّه الى الفارق بين مجتمعاً بمعنى منعقداً وبين مجمعاً أيّ بإجماع الأصوات، والدستور فرض الاجتماع ولم يطلب الإجماع) كما انّ الدستور لم يجعل وزيراً او مجموعة وزراء او كلّ الوزراء خارج مجلس الوزراء قادرين على ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية في حال عجزه أو خلو سدة الرئاسة،
يبقى الحديث عن القضاء حيث من المثير للدهشة انّ السلطة التي أولاها الدستور صلاحية لا بل أناط بها وحملها مسؤولية إحقاق الحق وحماية الحقوق بكلّ عناوينها بات البعض ينكر عليها ان تدافع عن نفسها ثم تأتي مرجعيات سياسية او دينية او غير ذلك وتهاجم هذه السلطة إذا تصدّت لممارسة صلاحياتها او قامت بواجباتها، والأفظع من ذلك ان ترى مسؤولاً قضائياً يساهم مع الآخرين في هذا الانتهاك بشكل مباشر او غير مباشر.
وخلاصة الأمر نقول إذا كانت هذه هي حال السلطات الدستورية والمواقف منها فأيّ استقرار او أمان ينشده المواطن؟ وأيّ طمأنينة يرجو، ونسأل المعنيين والمشاركين او المساهمين في رسم هذا المشهد الكئيب المقلق من يضمن لكم بقاء الحال في الشارع هادئاً ان استمرّ الموقف المعطل للسلطات قائماً؟
ألا يدرك هؤلاء انّ انسداد الحلول عبر المؤسسات الدستورية ينتج بيئة الانفجار في الشارع؟ وهل غاب عن هؤلاء انّ أميركا عجزت حتى الآن عبر خطة بومبيو التدميرية عن تفجير الشارع رغم أنها نجحت في المراحل الثلاث الأولى الفراغ السياسي والانهيار المالي والانهيار الاقتصادي فجاؤوا بمواقفهم التعطيلية تلك ليفرّوا لها فرصة نجاح الخطة في بند الانهيار الأمني؟
وأخيراً ألا يعلم هؤلاء انّ تعطيل المؤسسات يكون مقدمة لسقوطها وتالياً سقوط النظام الذي يعتمدها؟ ومن يضمن لهم في حال السقوط ان ينالوا ما يطمحون اليه او يحققوا ما يدّعون أنهم يعملون من أجله؟
* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى